الزجاجة الثامنة عشر

إلي رغد ليليّ :

ما زال محفورًا ذلك اليوم في ذاكرتي ، ليس فقط بما حمله من أحداث ، بل بكل تفاصيله الصغيرة التي بدت كأنها لوحة حية رسمها البحر بنفسه أمام عيناي. حيث كانت الشمس تقترب من الغروب ، تلون الأفق بلون برتقالي دافئ، بينما السماء تتدرج نحو الزرقة الداكنة ، القارب الخشبي الصغير كان يتمايل برفق فوق الماء، وكأنه يتنفس مع البحر. بدت الأمواج حينها كخيوط من الحرير تتشابك بلطف تحتنا، تحملنا بعيدًا عن المرفأ الذي كان يتلاشى تدريجيًا خلفنا ، تجلسين علي حافة القارب ، ترتدين فستانًا أبيض خفيفًا ، تنساب أطرافه مع نسيم البحر وشعركِ، الذي لفحته الشمس بخصلات ذهبية ، ينسدل على كتفيكِ كأنه جزء من ظلام الليل ، قدماكِ العاريتان تلامسان حواف القارب، وكأنكِ تريدين أن تشعري بالماء دون أن تغامري أكثر. كان كل شيء يبدو هادئًا في البداية عيناكِ، اللتان كانتا تراقبان الأفق بتركيز، حتي بدأتا تتهربان من النظر إلى الماء. رأيتكِ تمسكين بحافة القارب بقوة، وكأنكِ تحاولين السيطرة على دوار بدأ يتسلل إليكِ.

قلت : "سليمان، أشعر بشيء غريب،" قلتِ بنبرة حاولتِ أن تبدو ثابتة، لكنني قرأت فيها ترددًا. رأيت فيكِ شيئًا آخر؛ لم يكن ضعفًا، بل مقاومة هادئة. رغبتُ أن أخفف عنكِ، لكنني أدركت أن بعض الدروس لا يمكن أن تُعطى بالكلمات. كان ذلك اليوم درسًا لي أيضًا. أدركت فيه أن القوة ليست في مواجهة الأمواج بلا تردد، بل في الاعتراف بلحظات الضعف والتعامل معها بشجاعة. رأيت فيكِ شخصًا يتعلم من البحر نفسه كيف يُخفي اضطرابه في هدوء الظاهر.

حين عدنا إلى الشاطئ، كانت خطواتكِ بطيئة، لكن عينيكِ تحملان وميض الإصرار. شعرتُ حينها أن البحر لم يربح هذه الجولة، وأنكِ تركتِ له رسالة صامتة: "سأعود، وسأواجهكِ من جديد."

الآن، وأنا أكتب هذه الرسالة، أفكر في كم تشبهين البحر. فيكِ شيء من أمواجه؛ جمالها وصخبها، قوتها وهشاشتها. أتعلمين؟ ربما البحر لم يكن يريد أن يهزمكِ، بل أراد أن يعلمكِ كيف تكونين جزءًا منه، وكيف تحترمين قوانينه دون أن تفقدي ثباتك.

رغد، نحن جميعًا نحمل بحرًا داخلنا. وأنتِ، يا عزيزتي، بحرٌ أعمق مما يمكن أن يتصوره أحد.

مع خالص ودي، وحب دائم، سليمان

١١/١٢/١٩١١