في ميزان أحكام الحياة الذي وضعه الله تعالى لينظم الكون و ييسر أعمال البشر وفق القوانين المحكمة ، حاول البشر كعادتهم أن يتدخلوا و يضعوا بصماتهم التاريخية كالعادة .
منهم من حاول أن يتدخل إيجابيا بحسن النية و بحسب المقدرة و وجهة النظر ، و منهم من يتدخل سلبيا بتعمد بغرض كسر كل القواعد و القيود و تيسيرها لأهوائه الشخصية و منهم من يقف صامتا متفرجا بدعوى :- " و أنا مالي مش أنا اللي هغير الكون " !
و استمر الصراع ، و بات السؤال الأزلي دائما و أبدا :-
" لمن الحكم و لمن اليد المطلقة ؟" ..
أيحكم القلب أم العقل ؟
أيفوز المنطق ؟ أم ينتصر الواقع ؟ أم يستطيع الضمير أن ينهي الأزمة بكلمة حق تساوي الكثير في كفة العدالة و إرضاء الرأي العام ؟!!
من يتحكم في مجريات الأمور و القضايا المفصلية في الحياة ؟!
الحدث ؟ القاضي ؟ الرأي العام ؟ الصحافة ؟ الدفاع ؟ المجني عليه ؟ أم حتى الجاني؟!
كيف ننظر في الأمور ؟ و كيف نبحث عن دوافع الأشياء ؟
أنبحث بالمعلومات المجردة ؟ أم نبحث بعين ثاقبة فلسفية تنظر و تبحث فيما وراء الأشياء ؟!
و ما هي المرجعية ؟ و المرجعية ذاتية أم قانونية ؟ و هل يمكن أن ينال الحكم رضا الجميع ؟!
و ماذا يجب أن يكون رد الفعل ؟! الصمت أم الكلام ؟ الواقع أم الأحلام ؟
الرضا أم الاعتراض ؟
التشجيع على الاستمرار أم الإجبار على التراجع ؟!!
و تكمن الكارثة عندما يلعب المال دوره الفتاك ، و تلعب الأنانية دور الأسد الذي يبحث عن إشباع ذاته أيا كانت الفريسة في أي وقت و أي زمان و أي مكان دون تفكير أو حسابات !!
و هذه ليست حسبة اليوم أو الغد ، و لكن يرجع بها الزمن منذ أن قتل قابيل أخاه هابيل !! و ستزال حتى قيام الساعة ...
و الأغرب في الأمر ، أن الإنسان دائما ما يكون السبب الرئيسي و الجاني الحقيقي ، فهو من يدع للشيطان مكاناً و يترك له المساحة و الحرية التامة ليفعل ما يشاء و قتما يريد و يخطط للأمور كما يحلو له بكل سهولة دون أدنى مقاومة !!
و سبحان الله ، عندما يصل الإنسان لمراده بعد أن يدهس حلم أخ له في الإنسانية و يسرق من آخر و يذل هذا و يؤذي ذاك ، تجده لا يشبع و لا يكتفي و في بعض الأحيان قد لا يكون سعيداً و نادراً ما يندم على ما فعل إذا كان متبقي له بضع من ضمير !!
و لكن من يدفع الثمن ؟
أول من يدفع من دمه و لحمه ، هم أقرب الناس إليه ، أهله و ذويه !!
فهذه أم حرق الألم فؤادها
و هذا أب انقطعت أسباب الحيل لديه
و هذا أخ سقط صريعاً
و هذه زوجة تطلق
و هذا ابن يشرد
و هذا مجتمع يتوه و يتفكك يوماً بعد يوم ...
لك أن تتخيل يا سيدي ، موقف القاضي ،فهو بشر مثلي و مثلك ، سخره الله ليحكم بين الناس و كلمته سيف يمكن أن يقطع به يداً أو رقبة و يمكن أن ينجي به بريئاً .
و بما أنه بشر ، فالبطبع قد يخطئ و قد يصيب و قد يتعامل بالقلب أو العقل و قد يتم خداعه أو تتزين الحقائق أمامه ، و لأنه يدرك كل ذلك و لأن الخطأ في الأحكام في منتهى الخطورة و المسئولية و لأنه قد اختار بمحض إرادته أن يتولى هذا الأمر ، فهو يفكر ألف مرة مدام يرى الله دوما أمام عينيه ، خوفاً منه و رحمة بمصائر الناس ..
و في ظل سعيه الدائم لإعمال القانون و بنوده ، فهو يسعى جاهداً في إعمال فطنته لبحث الدوافع العقلية و النفسية و المرضية وراء الحادث و له سلطة تقديرية لتخفيف العقوبة أو ربما إلغائها !!
و لم يكن هذا محض صدفة أو دستور ، بل يرجع الأمر إلى "شرع الله " الذي حرص على الأحذ بالأعذار و الظروف التي أحاطت بالمتهم على سبيل الرأفة دون دون الإخلال بالعدالة و الحفاظ على الحقوق .
فلا يوجد أبيض أو أسود في المسائل القانونية بدليل وجود محاكم النقض و الاستئناف و الدستورية العليا و خاصة أن مشرعي القانون قد يدرجون العديد من المصطلحات التي قد تحمل أكثر من معنى ..
و لكي يصلح القانون ، لابد و أن يفسر تفسيراً يعطي للقاضي الحق لتطبيق الحد الأدنى و الأقصى للعقوبة .
و لولا هذا الشعور و هذه الفطنة و الحكمة و الفلسفة التي تساوي في قدرها قدر الأدلة و المستندات بل قد تغلبها في أوقات كثيرة ،لاستطاع الجاني أن يصبح بريئاً و لحصل البرئ على الإعدام !!
فلا يمكن أن تحكم مجموعة أوراق فقط على مصير و مستقبل إنسان !!!
و لو كان هذا ممكناً ، لأصبحت الأحكام مميكنة و إلكترونية !!
أتعرف عزيزي القارئ علام أتحدث ؟
إني أتحدث عن "روح القانون # ..
و أتعجب كثيرا من البعض الذين يسفهون من هذه الكلمة و يستهزئون بها و يسخرون من القضاة الذين ينظرون لبعض القضايا بالجانب الشعوري و الفلسفي إلى جانب الوعي الحقيقي و العقلي !!
و كيف يحكم الرأى العام الدفة بمجرد الاضطلاع على مجموعة أخبار ، الله وحده من يعلم مدى صحتها أو دقتها ، دون دراسة أبعاد القضية أو حتى ما يسمى ب "أ ب قانون" على أقل تقدير !
فإن كنا سنحكم في القضايا بوجهات نظر كل فرد منا الشخصية ، لما رسينا على حكم و لأصبحت الدنيا أشبه بالغابة !
فلا يمكن أن يتفق الكل على نفس الحكم !
و لكن الحكمة تقتضي أن ننظر في الأمور نظرة ثاقبة و أن نعمل العقل دون أن ننسى أننا بشر .
و البشر يشعر و يحس و يفهم و يتفهم و يخطئ و يغفل و يصيب و يندم و يتوب و يعفو و يتسامح و العبرة بالنهايات و ميزان الحسنات و عدم تكرار الأخطاء ..
و إن لم يستطع الإنسان العفو في مجمل حياته ، لأصبح جماداً أو ربما أسوأ بكثير ..
فالله هو الغفور الرحيم ، فكيف لبشر أن ينطق بعد هذه الجملة !!
القانون دستور حياة ، و عظمة القانون في كونه يرد الحقوق بأهدأ الطرق و أقلها أذى و دمار .
فلا يدهس أحلام البشر و لا يدمر و يشتت أسر .
به تستقيم الحياة و تهدأ النفوس ..
و نحن في النهاية بين خيارين :-
* إما أن نحترم قوانين الكون الذي نحيا فيه
* إما أن نحوله إلى غابة ، يأكل فيها القوي الضعيف ، و يدهس فيها الظالم المظلوم ، و تكون السيادة فيها للمجرم بلا حساب ، بلا دليل ، بلا أمان ، بلا إنسانية ..
و سيبقى القانون دوما بين ميزان العقل و القلب و صراع الواقع و تغليب الضمير ..
د.ياسمينا شاهين