ليلة دمار #حلب ..

هذا أنا ، الفتى سين .. تريد معرفَة اسمي الحقيقي ؟ لا داعي لذلك ، فأنا حالة كباقي الحالات .. قد يكون اسمي محمد أو خالد أو أيمن ، ولكن بصراحة من يهتم ؟

هذا أنا ، الفتى سين .. تريد معرفة عمري ؟ صغير بما فيه الكفاية لتحمّل جنون هذا العالم .. كبير بما فيه الكفاية لأعطي دروساً لكلّ العالم .. ولكن أيضاً نفس السؤال .. من يهتم ؟ خاصّة بعد أن تحوّلتُ لمجرّد رقمٍ في نشرات أخباركم ..

هذا أنا ، الفتى سين .. ولدتُ في مدينة تُعرَف تاريخيّاً باسم حلب .. ربما أنت تقرأ هذا الكلام وحلب غير موجودة .. ولكن أؤكّد لك أنها كانت موجودة .. وكانَت أجمل مدينَة في ما عُرف تاريخيّاً ببلاد الشام .. لعل بلاد الشام أيضاً غير موجودة أثناء قراءتك ..

هذا أنا ، الفتى سين .. منذ فترة طويلة لم يَعُد لدينا منزل .. إذا حالفنا الحظ ننام في الحدائق والشوارِع والمدارس وساحات المساجد .. أما إذا لم يُحالفنا الحظ .. لا ننام .. من يحتاج للنوم أساساً ؟

هذا أنا ، الفتى سين .. صارت مدرستي الابتدائية هي منزلي الآن .. كُنا أكثر من 3000 إنسان في هذه المدرسة .. لا ننتظر الأستاذ ليشرح الدرس .. بل ننتظره لينهي هذا الامتحان ..

هذا أنا ، الفتى سين .. عالِق في الحرب والحصار منذ مدة طويلة .. كم بالضبط ؟ توقفتُ عن العدّ بعد السنة الثانية .. كنّا أنا وعائلتي الصغيرة نتدارس الاحتمالات واحتياجات واستعدادات الحرب .. بالذات استعدادات الطوارئ ، طعام الطوارئ ، ملجأ الطوارئ ، طوارئ الطوارئ .. حتّى وصلنا تدريجيّاً للطارئ الأكبر "الموت" ..

مات والدي منذ فترة طويلة .. مات والدي ، ولكن مازال حيّاً في داخلي .. ولا تعتقد أبداً أنّ هذا تعبير مجازي ..

تدهورت صحّة والدي كثيراً في الأيام الأخيرة .. كنت أعرف أنه في أيّ لحظة قد يموت .. حتى أتى اليوم الذي استيقظت فيه على بكاء أمي ..

أخبرتي أمي قبل موته بأيام .. "عندما يموت والدك .. سنأكله" .. ولكن لم أصدق أن هذا حصل .. كنا زُهاء 3000 إنسان ، كل يوم يموت أحدٌ منّا .. منذ أسبوع لم يأكل أحد منا شيئاً .. الشيء الوحيد الذي نأكله هو الحشيش الذي ينمو بين تشققات الجدران .. نشرب من مياه الأمطار الساقطة على الأرض الطينية .. بدأنا أولاً بأكل القطط والكلاب ، ولكنهم اختفوا .. لذا قررت أمي أن نأكل الموتى ، وأول من بدأنا به هو أبي ..

أكلناه لحماً نيّاً بالطبع ، فنحن لا نستطيع إشعال النار .. اجتمع العديد من الناس لنيل لقمةٍ من لحمه .. حصلتُ على قلبه وتناولته رغماً عنّي .. ألم أقل لكم أنه ليس تعبيراً مجازيّاً ؟! .. لم يكن طعم كبار السن جيّداً .. لذا صرنا نتناول الأطفال .. فلحومهم طريّة ..

هذا أنا ، الفتى سين .. فقدتُ أي أمل من أحياء الأرض ، ليس على هذه الأرض ما يستحق الحياة .. أجلس بتقرب وخوف بانتظارهم .. لقد اقتربوا .. أسمع أصواتهم .. في أي لحظة يدخلون علينا ويعذبونا وينحرونا .. ولكن ، أتمنّى أن يقتلوني قبل أن يجعلوني أشاهدهم وهم يغتصبونَ أمي .. الظلام دامس .. أسمع أصوات صراخ فبكاء فعويل فحشرجة .. ثم ، لا أسمع شيئاً ..

هذا أنا ، الفتى سين .. أعلم أن الحكومات والإعلام سيحاولون إيهامكم بأن ما يحدث لم يحدث .. وأنه مجرد خيال .. صدقوني لقد حدث ..

هذا أنا ، الفتى سين .. لقد مِتّ الآن .. جثّتي أين هي ؟ لا أعرف ، ولا أريد أن أعرف .. ولكن صدّقوني أنا كنت موجوداً يوماً ما ..

.

  • أحد المذكرات التي قرأها وينستون سميث قبل أن يبتسم ساخراً ويرميها في النار ..

.

.