قال:حسنا؛كلى أذان صاغية،عبرى عن شعورك بصدق، وأنا هنا أنصت إليكِ.

قلت:لا لن أسرد هذا الشعور مرة أخرى، إنه فى كل مرة يبكينى؛وقد وعدته ألا أبكي .

قال:لكنك أخبرتينى من قبل أن الدموع رحمة له ولك، فلما تحرمينا تلك الرحمات.

صمتت لبرهة ،وتنفست بعمق ثم نظرت إلى النافذة، وكأنما غُيبت عن الزمان والمكان لتجسد لنا زمان ومكان أخران مختلفان، قد نُسجا من صدق شعورها.

حسنا أبدء معك بوعى طفلة ساذجة لا علم لها سوى صدق شعورها وشدة خجلها؛خجلا أُجبرت عليه، خجلا ليس من الدين لكن بحكم العادة صار لديها دين، دين يحجبها عن أن تعبر عن مشاعرها، عن أن تحتضن من احتضنها منذ اللحظة الأولى من ولادتها.

تُراقب الموقف وكأنه مشهد فى مسرحية، الكل أخذ دوره غير أنها الوحيدة التى كانت تتابع المشهد، ولا دور لها، أٌخبرت بالهاتف أنه توفى، مات من دون أن تلتقيه، لقد كان اليوم حظها فى الزيارة فكيف يرحل دون لقاء، غُيبت عن الواقع بأنه لم يمت لعلها إغماءة فقد حدثت من قبل لجار لهم بعدما اعتقدوا وفاته عاد من غيبوبته، هو فى غيبوبة وسيعود، الكل كان فى حالة حزن، بكاء، لكن بكائهم لم يحرك مشاعرها لتشاركهم ألم الفقد بعد، وحده المذياع بصوته الجهور وبتردديه توفى اليوم إلى رحمة الله تعالى ويذكر اسمه، هنا بكت وأيقنت أنها دقائق وسيودع فى مستقره الأخير ولن تراه، المذياع يعاود الحديث الجنازة فى طريقها الآن إلى .....

يكررها عدة مرات وقد حُمل نعشه وهى ما زالت غير مصدقة بعد ، المذياع وحده الصادق فى هذا الموقف، وحده من أخذ بيدها لتودعه بدموعها.

كيف له أن يرحل دون وداع، دون أن أحتضنه بشدة وتقبل يداه وجبينه، أعتذر له ألف ألف عن كل هفوة، أخبره أنى ما قصدت يوما أن أؤذيه لكنه العناد الذى صاحبنى فى تلك المرحلة، لم أقصد يوما أن أجافيك، كيف لى أن أخبره؛أنه برحيله رحل أٌنسى، صرت معهم حاضرة غائبة، صرت شاردة طوال الوقت، شرود لم أستطع يوما أن أفسره، لكن الخطوب من بعده تكفلت بتفسيره.

كيف لى أن أخبره أن الزمان توقف مذ رحيله، ظننت أنه من العدل أن أٌخلف أحد يؤنسنى بعده؛ هكذا قرأت فى كتاب الحياة وفى قصص المتقدمين والمتأخرين أن من عدل الله أن يٌخلف على عباده عقب كل فقد، فقد كنت شيخى الأول ومعلمى الأول وحبيبى الأول فكيف أٌعوض كل ذاك أبى.