في مكان لا تعرف له اسماً ..

و زمان تُنسى فيه الساعات..

كانت هناك فجوة جليدية يبتلعها ظلام ...

و من بين الصمت القارس

"ومضه هاتف مذبوحة بالبرد"

ارتجف لها قلب “أيمن” كمن تشبّت بظلّ حياه.

من بين الظلام الدامس , ومضة هاتف ...

تشبّت بها أيمن مُنادياً للنجاة , للمساعدة ... أو حتى لشئ من الشفقة ..

يداه بالكاد تتحركان من شدة البروده , و دمّ متخثّر يسيل من ضلعه الأيمن المُهشم , بينما قدماه لا يشعر إن كانتا لا تزالان على قيد الحياة أم لا ..

قال بين أنفاسه المتقطعة , بصوت بالكاد يُسمع :

-“لن اسمح لنفسي بالموت الآن .. بعد أن

وصلت !!”

من ثنايا الظلام , جاء صوت "نعيق غرابٍ" يحلقّ فوق تلك الفجوة .

صوتٍ ما ناداه من بعيد, و كأنه يقول:

”لربما أكون طوق النجاة الوحيد أمامك”.

نظر للأعلى , ثم أخذ من الثلج حوله كراتٍ صغيرة , و راح يقذفها نحو الغراب , صارخاً من عمق ألمه :

-“فلتسقط..لعنك الله أيها الغراب !”

مرة تلو الأخرى , حاول إصابته , مُستخدماً ما تبقى له من قوة في أنفاسه المتقطعة .

و فجأة ..

رفرف الغراب على بُعد خطوات .. قفز أيمن من مكانه غير مكترث بضلعه المكسور , و بساقيه اللتين تحوّلتا إلى ما يشبه الخرسانه من شدة البرودة .

زحف إليه , حتى أمسك به كمن أمسك لِصّ.

بيديه الملطختين بالثلج و الدماء , لفّ حول جسد الغراب ورقه كتب عليها بيد مرتجفه رسالة :

-“أنا ...دماء دماء دماء

في فجوة بين صدفين جليديين

أحتاج للمساعده

لدي ضلع مكسور

أشعر بفتاته كالزجاج المهشم داخل صدري

دماء ..دماء

أطرافي تحولت للون البنفسجي

سأصمد ... حتى يأتي أحدهم..”

ثم رفع عينيه إلى وجه الغراب الملطّخ بالدماء

نظر إليه نظره صارمه , كأنما يُصدر أمراً عسكرياً لجُندي :

-“أيها الطائر الأسود ..

حلق بهذه الإشاره , خذها معك ..

أنت فرصتي الوحيدة في النجاة

يجب أن تعود , لكن .. لا تعد فارغاً”

لا تعد فارغا...

الفصل الأول

قبل السقوط

-“يا أخي , الحياة قصيرة .... عِشها كما تُحب!”

تحدث أيمن و هو يرمي بجسده على الأريكه كمن ربح للتو معركة , بينما سالم و هو يُقلب صفحات كتاب يقرأه نظر لعيني أخيه , و قال بصوت هادئ

كعادته :

-“و أنا أقول الحياة قصيرة .. فلا تفسدها على نفسك “

ابتسم أيمن ابتسامه مائله للسخريه :

-“أنت لو كان اسمك غير سالم , لكان أولى بك أن تُدعى الراشد الحكيم ”.

لم يردّ سالم , بل اكتفى بنظره ثابته نحو أخيه ثم أغلق الكتاب .

-“أنا جاد يا أيمن ... منذ أسابيع و أنت تشتكي من ضيق النفس , و رغم ذلك .. تسهر و ترهق نفسك و تعيش كأن لا شئ يُهم “

هزّ أيمن كتفيه غير مكترث لأخيه و قال :

-” لأنني إن فكرت في كل شئ , سأتوقف عن فعل أي شئ”.

--

كان أيمن شاباً في منتصف العشرينات , يمتلك روحاً صاخبه و قلباً لا يعرف السكون و صدراً مهترئاً.

يحب المغامرات , و يكره الرتابة .

إن لم يجد شيئاً يكسره .. كسر نفسه .

أما سالم فكان النقيض التام .

هادئ مُفكر , يُنصت أكثر مما يتكلم , و عيناه تشبهان شيخاً في جسد فتى .

--

في مساء لاحق , َرن هاتف أيمن .

-“جاهز يا مجنون؟!”

صوت وائل كعادته , يصرخ في الهاتف دون مبرر

و لأن الحياة لا تحلو إلا ببعض الأصدقاء المجانين

رد أيمن مُعلقاً:

-“يا إلهي تلك الرحلة ستجعلنا كاللأحرار نعيش حياتنا

نعيش حياتِنا !”

ثم ضحك ضحكة عالية و أضاف :

-“أحمد , هاني , سمير , فتحي الكتيبه جميعها ستكون هناك و هناك احتمال ضعيف بوجود حكماء القوم (ضاحكاً بسخريه) هيثم و داوود

ابتسم أيمن و هو ينظر من الشباك فلمح جارتهم (ريم) تمرّ بجانب بيتهم , تمشي بخطى هادئه , تحمل أكياس الخبز

علق بصوت هامس :

-” يا ليتني أمتلك الجرأه فقط لأقول لها مرحباً”

وعاد للصوت في الهاتف

-“جاهز.. كالمعتاد”

رد وائل مُعلقاً على تِلك الهمسه:

-"في أحلك أحلامك يا ولد".

ضحك الجميع و كأنهم لا يملكون من الحياة هما..

في اليوم التالي , أخذ سالم أخو أيمن يتحدث مع هيثم و داوود عبر مكالمة قصيرة , قال فيها بقلق حقيقي:

-“انا خائف عليه .. لا أشعر بالراحة من هذه الرحلة .

أيمن يعاني من ضيق تنفّس , و البرد هناك شديد و أنتم تعرفون أنه لا يحتاط أبداً , كما أني أخاف من الانهيارات الجليدية , أرجوكم حاولوا منعه..

أنتم من أسلم الحديث معهم البقيه طائشين مثل أيمن”

رد هيثم :

-“سنتصل به ونحاول إقناعه مرة أُخرى أن يؤجل الرحله إن لم يستمع لك لا تقلق , ربما يستمع لنا هذه المره “

لكن أيمن كالعاده .. لم يستمع لأحد..

و في صباح الرحله , خرج أيمن بوجه ضاحك , يحمل حريته المزعومه وصدره المهترئ و حقيبته على كتفه و قلبه معلق بشيء لا يعرفه .

أوقفه سالم على باب المنزل , نظر إليه نظرة طويلة و قال { في صدره اللهم كما حفظت يونس في بطن الحوت و حفظت يوسف من كيد اخوته احفظ

أيمن } , ثم قال بصوت متهدج:

-“كن حذراً.. أرجوك .. لأجل والديك!.. لأجل… ”

باغته رد أيمن

فقال مبتسماً وهو يصفق على كتف أخيه :

-“اطمئن .. أنا دائماً أعود”

.

.

.

و غاب.