استيقظ ذات صباح ليجد نفسه وحيدًا. ليس وحيدًا بمعنى غياب الأشخاص في المنزل أو الشارع، بل وحيدًا تمامًا. العالم كله بدا وكأنه توقف عن الحركة، وتبخر البشر، واختفت أصواتهم. كل شيء بقي على حاله: السيارات مصطفة على جانبي الطريق، الأضواء المرورية تومض بنظام صارم، وأوراق الشجر ساكنة كما لو أن الرياح توقفت احترامًا لصمتٍ أبدي.

ابتسم بمرارة عندما أدرك أن كل هذا الصمت قد يكون حلمًا لعالمٍ أنهكه الضجيج. وقف في منتصف الشارع، حيث كان صدى خطواته يتردد بين المباني الخالية، فتساءل بسخرية مريرة: "هل هذا عقاب أم هدية؟" لطالما تمنى لحظة هدوء، لحظة خالية من الصراخ والثرثرة الفارغة، لكنه لم يتخيل قط أن أمنيته ستتحقق بهذه القسوة.

ركض من حيٍّ إلى آخر، طرق الأبواب، اقتحم المنازل، صرخ في الفضاء الرحب، لكن لا مجيب. كأن العالم كله قد تحوّل إلى لوحة زيتية متقنة التفاصيل، لكنها بلا حياة. عبثًا حاول استيعاب الأمر، فالمنطق هنا أقرب إلى العبث. هل عاقبه الزمن بنسيانه؟ أم أن الكون قرر أخيرًا تجربة سيناريو "ماذا لو اختفى الجميع وبقي واحد فقط؟"

بدأت الأسئلة تتدفق كالنهر الجارف: أين ذهب الجميع؟ كيف حدث هذا؟ ولماذا بقي هو؟ هل هو استثناء أم لعنة؟ أم أنه بطل مأساة إغريقية جديدة، كتب عليه أن يتحمل عبء الوجود وحده؟

تلك الوحدة المطلقة لم تكن مجرد غياب للأشخاص، بل كانت فراغًا يلتهم الزمن والمعنى. فجأة، أدرك أن كل شيء كان يستمد قيمته من وجود الآخرين. المتاجر الفاخرة، السيارات اللامعة، المنازل الفخمة... ما فائدتها الآن؟ لمن سيتفاخر بها؟ لمن سيحكي عن مغامراته أو يشارك أفكاره؟

جرب الاستمتاع بحرية لا حدود لها. دخل أفخم المتاجر، جرب الملابس التي لم يحلم بارتدائها من قبل. قاد السيارات الرياضية بسرعة جنونية في الشوارع الخالية. استلقى على أسرّة القصور الفارهة، لكنه لم يجد راحة. كانت المتعة خاوية، بلا معنى، لأنها لم تكن مشتركة. أي عبث هذا أن تملك العالم كله، لكنك لا تملك أحدًا تشاركه به؟

في الأيام الأولى، حاول التواصل مع العالم. شغّل أجهزة الراديو، أرسل نداءات استغاثة، انتظر أي إشارة تدل على حياة، لكن كل ما تلقاه كان الصمت. صمتٌ بدا له أشد صخبًا من أي ضجيج عرفه من قبل. لم يكن صمتًا مجردًا، بل كان صمتًا ثقيلاً، له وزن وملمس، كأنه كائن خفي يراقبه من كل زاوية.

بدأت الشكوك تنهش عقله. هل هذا حلم طويل؟ أم أنه مات والجحيم هو الوحدة الأبدية؟ أم أن كارثة مروعة حذفت البشرية من الوجود وتركت خلفها عالمًا فارغًا؟ تساءل بنبرةٍ ساخرة: "هل هذا شكل جديد من نهاية العالم؟ نهاية صامتة، أنيقة، بلا فوضى أو دمار؟"

في محاولته للفهم، لجأ إلى الكتب. قرأ عن الأكوان الموازية، عن السفر عبر الزمن، عن الفلسفة والميتافيزيقا. كانت كل صفحة تزيده حيرة. كيف يمكن لعقل محدود أن يدرك ما هو غير محدود؟ كيف يمكن لإنسان أن يستوعب فكرة أن يكون آخر البشر؟ بل كيف يمكن للغة نفسها أن تصف شعورًا لم يختبره أحد من قبل؟

بدأت الأيام تتشابه، وفقد الزمن معناه. لم تعد هناك مواعيد، ولا جداول زمنية، ولا ضرورة للالتزام بأي شيء. تحوّلت الحياة إلى سلسلة متكررة من الشروق والغروب. وأصبح السؤال الأهم: لماذا أعيش؟ ما الهدف من الاستمرار في عالم خالٍ من المعنى؟

لكن رغم كل هذا، كان هناك شيء بداخله يرفض الاستسلام. ربما هو الأمل، أو الغريزة البشرية للبقاء. بدأ في تنظيم حياته من جديد. تعلّم الزراعة لتأمين طعامه، حفر بئرًا للماء، وابتكر طرقًا بدائية لتوليد الطاقة. تحوّل من إنسان حديث يعتمد على التكنولوجيا إلى كائن بدائي يقاتل من أجل البقاء.

لكن الوحدة كانت أثقل من أي عبء. كان يتحدث إلى نفسه، ثم إلى الجدران، وأخيرًا إلى الدمى التي جمعها من المتاجر. رسم لها وجوهًا وأعطاها أسماء. جلس بينها لساعات، يتحدث ويجادل، محاولًا محاربة الجنون الذي بدأ يتسلل إلى عقله.

وفي يومٍ من الأيام، بينما كان يتجول في مكتبة مهجورة، وجد كتابًا عنوانه: "تأملات في الوجود والوحدة". قرأ فيه: "الوحدة ليست غياب الآخرين، بل غياب المعنى." عندها أدرك أنه لم يكن يبحث عن بشر، بل عن معنى. فالعزلة الحقيقية هي أن تعيش دون أن تفهم لماذا.

بدأ يكتب رسائل طويلة، يخبر فيها عن أيامه وأفكاره، ويضعها في زجاجات، ثم يلقيها في البحر. كانت تلك الرسائل بمثابة صرخات استغاثة صامتة، تحمل أمله في أن يجدها أحد، في يومٍ ما، في مكانٍ ما.

وفي يومٍ من الأيام، وقف على قمة جبل يطل على المدينة الخالية. رأى الشوارع الصامتة، المباني المهجورة، والأفق الذي يبدو بلا نهاية. أدرك حينها حقيقة الأمر: ربما يكون حقًا آخر إنسان على وجه الأرض.

لكنه لم يستسلم. قرر أن يستمر في العيش، ليس بحثًا عن ناجين، ولكن بحثًا عن إجابات. فالحياة، حتى في وحدتها القاتلة، تستحق أن تُعاش. إن لم يكن لأجل الآخرين، فلأجل فهم هذا الوجود الغامض.

انطلق في رحلة بلا وجهة محددة، تاركًا خلفه مدينة صامتة، حاملًا معه أسئلته اللامتناهية. كان يعلم أنه قد لا يجد إجابات، لكنه أدرك أن البحث نفسه هو ما يمنحه سببًا للاستمرار.

في النهاية، لم يكن الأمر مجرد قصة عن الوحدة، بل عن الإنسان في مواجهة الوجود، عن العقل في مواجهة العبث، وعن الأمل في مواجهة الفراغ. كان يعلم أن المعنى قد لا يأتي أبدًا، لكن رحلة البحث عنه هي ما تجعل الحياة جديرة بالاستمرار.

وهكذا، في عالم فارغ من البشر وممتلئ بالأسئلة، مضى بخطوات ثابتة، باحثًا عن معنى لا يعرف شكله، لكنه يؤمن بوجوده. ربما، في نهاية الرحلة، سيجد الإجابة. أو ربما، سيكتشف أن السؤال نفسه كان هو المعنى.