لم تكن تدري أن حفلة تكريم عابرة، أقيمت في بلدٍ غريب، ستكون بداية التحوّل في حياتها. كانت امرأة ناجحة، تملأ يومها بين أطفالها وعملها، تمضي الساعات في دائرة لا تتوقف، حتى نسيت نفسها في زحمة المسؤوليات. وبين تصفيق الصديقات من جنسيات مختلفة، لم يخطر ببالها أن ما ستراه تلك الليلة سيغيّر شيئًا في داخلها.

كانت صديقتها تضحك بخفة وهي تحدّث رجلًا تعرفت عليه في تطبيق محادثة. كانت حكاية تبدو عابرة، للتسلية فقط، كما قالت. لكن تلك “التسلية” كانت كصفعةٍ أيقظتها من سباتها الطويل. شيء في عيني صديقتها، في ضحكتها، في طاقتها، جعلها تفكر — متى آخر مرة شعرت أنا بهذه الخفة؟

حفظ عقلها الباطن تلك اللحظة، وكأن القدر بدأ ينسج خيوطه بصمت. ففي صباح السفر، غلبها النوم — ولأول مرة يفوتها موعد الطائرة. ثم جاء قرار إدارة الفندق بضرورة مغادرتها الغرفة لانتهاء الإقامة، فاضطرت لانتظار الرحلة التالية ساعات طويلة.

الوقت يتثاءب، والملل يزحف، والوحدة تفتح الباب للفضول.

هكذا، بخطوةٍ ترددت فيها أناملها، ثبّتت تطبيق المحادثة ذاته. مرّت على عشرات الوجوه دون اهتمام، إلى أن توقفت أمام صورة واحدة، عادية في ملامحها، لكنها تشبه الهدوء الذي كانت تبحث عنه. أرسلت “مرحبا” بتردد، فجاء الرد دافئًا على غير المتوقع.

هو أيضًا لم يكن محترف هذا العالم، بل كان يخوضه بحذرٍ ومرارة. رجلٌ فقد الحركة بعد حادثٍ غيّر مسار حياته. كانت هي لا تعرف شيئًا عن ذلك بعد، فقط كانت تنصت، وتضحك، وتستعيد شعورًا نسيته منذ زمن: أن يُصغي أحد إليك حقًا.

ثم جاء السؤال الذي فتح أبواب الحنين:

– هل ندمت يومًا على شيء فعلته؟

ارتبك. ثم كتب بعد صمتٍ طويل:

– نعم… على السرعة التي أنهت أجمل أيامي، وتركتني أعيش داخل كرسيٍّ لا يتحرك.

منذ تلك اللحظة، صار الحديث بينهما مختلفًا. لم تعد مجرد دردشة افتراضية، بل مساحة عارية من الزيف. ومع اقتراب موعد رحيلها، طلبت أن تراه. وافق على أن يأتيها بالعنوان، لكنه لم يجرؤ على اللقاء. راقبها من شرفته، تراها تلتفت في كل اتجاه، تبحث عنه بين الوجوه، بينما هو يراها بعينين امتلأتا بالدمع والخذلان.

رحلت دون أن تراه، لكنها أخذت معه شيئًا لا يُرى.

وعندما عادت إلى حياتها الأولى، حذفت كل أثر له. لم تبقَ سوى الذكرى — حديث عابر، لكنه ترك في روحها أثرًا لا يمحى.

ومثلها، بقي هو أيضًا هناك، في شرفته، يحدّق في العالم ولا يلمسه، يتذكر أن ما يعجز عن الوصول إليه ليس الجسد، بل التصالح مع ما كان.

هذه القصة ليست عن خيانة، ولا عن صدفة.

إنها عن الفراغ الذي يمكن أن يقودنا إلى القاع أو إلى النور، بحسب الطريقة التي نملؤه بها.

عن العطش العاطفي الذي يجعلنا نمد أيدينا إلى عوالم وهمية فقط لأنها تمنحنا ما حُرمنا منه في الواقع.

عن أولئك الذين لم يتصالحوا مع ماضيهم، فعجزوا عن بناء حاضرٍ يليق بهم، وظلوا يتنقلون بين وجوهٍ افتراضية لا تشبههم، حتى فقدوا القدرة على العودة إلى ذواتهم الحقيقية.

إن العالم الافتراضي لا يمنحنا الحب، بل يعكس فراغنا.

فإما أن نملأه بالوهم… أو بأنفسنا.