اقتربت الساعة من العاشرة مساء، عندما توقفت سيارة مرسيدس أمام (سينما الجوهرة).. في منطقة وسط البلد.. ترجل من السيارة السيد وجدي المحقق الشهير، وأبناؤه.. محمد وفاطمة. الأطفال في عمر السابعة والعاشرة على الترتيب.
بدا الضيق على وجه وجدي وهو يوجه حديثه لهم:
- هناك العديد من السينمات الفخمة، وأنتم مصممين على هذه السينما المتواضعة! لو علمت أمكم أنني استمعت لكما لكانت مشاجرة كبيرة.
ردت فاطمة بسرعة:
- لكن أبي.. هذه هي السينما الوحيدة التي تعرض فيلمنا المفضل... أرجوك.
دلف وجدي للسينما، بعد أن قام بحجز التذاكر من الشباك المخصص. في الغالب تتودد له موظفة التذاكر حتى يعطيها مبلغا إضافيا عند الحجز، لكن هذه المرة كانت الموظفة متجهمة الوجه متعجلة على حجز التذاكر.
بعد دقائق دلفت الأسرة للقاعة المخصصة لعرض الفيلم.. صمم وجدي على عدم شراء الأطفال لأي مأكولات من الكافيتيريا الملحقة بدار العرض، إنه لا يثق في نظافة الطعام خارج المنزل.
في ظلام القاعة بدا وجدي شاردا بعض الشيء، تعود بحكم مهنته أن يركز فيما لا يركز فيه الأخرين.. كانت القاعة شبه خالية نتيجة قلة الاقبال على الفيلم، إلا من شابين متحابين جلسا في المقاعد الأخيرة. كان من الواضح أنهم غير مهتمين سوى بالحديث مع بعضهم البعض، ولا يلقون بالا بالأحداث.
حانت من وجدي التفاته نحو فاطمة فوجدها تأكل (الفيشار).. نهرها منتزعا منها الكيس.
- كيف تأكلين شيئا لم نشتريه! هل تعلمي من تناول منه قبلك؟!
- وجدته هنا.. يبدو أن بعض الأشخاص نسوه من العرض الماضي.
ألقى وجدي الكيس أرضا في غضب.. ووجه اللوم لنفسه.. ها هو رجل الأمن الشهير قد راقب كل من حوله ونسى أن يراقب ما يأكله أولاده!
غرق في أفكاره قبل أن ينتبه على توقف عرض الفيلم فجأة. أضاءت القاعة عن رجل بدين بدا عليه التوتر. قال للجالسين:
- أعتذر لكم يا سادة. لن نستطيع استكمال عرض الفيلم. هناك حادث طارئ ويجب أن أطلب منكم المغادرة.
اقترب منه وجدي وتحدث معه غاضبا:
- لقد قطعت مسافة كبيرة حتى يشاهد أولادي هذا الفيلم تحديدا.. لماذا لا تحلون مشاكلكم وتتركونا نشاهد الفيلم في سلام!
رد عليه الرجل غاضبا:
- أرجوك أستاذ.. لقد تعرضت السينما للسرقة. لا نريد المزيد من المشكلات.
لمعت عينا وجدي.. اقترب من الرجل وهمس له:
- هذا يعني أنني إذا عرفت من الذي قام بالسرقة ستقوم بتشغيل الفيلم للأولاد؟!
صاح به الرجل بغضب:
- تعرف من الجاني؟ ومن تظن نفسك يا أخي! هل تظن نفسك السيد وجـ...
صمت لثانية ثم صرخ بانبهار:
- إنه أنت! السيد وجدي! أعتذر لك يا سيدي لم أميز شكلك في الواقع، فهو يختلف عن الصحف كثيرا.. إن صدى ما قمت به في شركة حواسيب يتردد حتى اليوم! هل تعلم أن هناك فتاة تروج لنظريات المؤامرة عبر الانترنت وتقول أن طريقة حلك لهذه القضية غير منطقي؟
قال له وجدي بحسم بعد أن لاحظ نظرة الضيق على وجه أبناؤه:
- هل ستعيد تشغيل الفيلم إذا ما اكتشفت لك الجاني؟
- ليس هذا فحسب سيدي.. سأقوم بتشغيله لكم وحدكم.. مع كل ما تطلبونه من مسليات وعصائر.
تحرك وجدي مع الأطفال خارج القاعة، الى البهو الرئيسي. وهو يسأل:
- ما الذي سرق منكم؟
- الإيراد اليومي بالكامل.. سرق من غرفة حجز التذاكر.
- من يملك مفتاح الغرفة؟
- هناك عامل الأمن (علي)، و (لبنى) المسئولة عن حجز التذاكر.
- أريد الانفراد بكل منهم على حده.
حانت من وجدي نظرة نحو الشاب والفتاة الذين استعدوا لمغادرة القاعة قبل أن يهتف بصاحب السينما:
- أريد الشاب والفتاة أيضا!
حانت من الشاب صرخة اعتراض، فيما وضعت الفتاة يدها على وجهها وأجهشت بالبكاء وهي تقول:
- نحن لم نغادر مقاعدنا.. لم نسرق شيئا.
- سيدتي.. إنها مجرد أسئلة روتينية ثم يمكنك العودة للمنزل. لن يستغرق الأمر دقائق.
تم تدبير الأمر على عجل.. اتخذ وجدي من مكتب صاحب السينما ما يشبه غرفة التحقيق. كان الشاب والفتاة هم أول من جلسوا أمام وجدي. كان الفتى (أيمن) هو من تولى الحديث نيابة عن الفتاة. بدأ وجدي بالحديث:
- ما طبيعة العلاقة التي تربطك بالفتاة؟
رد أيمن بتحدي:
- أعتقد أنه ليس من شأنك هذا.. لن أجيب على أسئلة بعيدا عن حادث السرقة.
- هذا يصب في موضوع السرقة يا فتى. على كل حال يمكنك الإجابة هنا أو الإجابة في قسم الشرطة. عندما نستدعي والدك...
نظر للفتاة وهو يضغط على كلماته:
- ووالدها
هتفت الفتاة بذعر:
- أرجوك سيدي لا تستدعي أحد.. أيمن سيتقدم لخطبتي قريبا. تجمعنا قصة حب. هو زميلي في الجامعة.
- وطبعا يحاول تكوين نفسه من خلال سرقة ايراد السينما
تحرك الفتى واقفا، وركل المقعد الذي كان يجلس عليه، وارتفع صوته عاليا:
- لا أسمح لك.. أنت أو الخنزير البخيل صاحب هذه السينما أن تتطاولا علينا وتتهمونا بالسرقة.. افعل ما تشاء واستدعي من تشاء.. هذه البلد بها قانون! كل ما فعلته هو أنني جلست بجوار فتاتي في السينما.. هل هذه جريمة؟!
نظر وجدي نحو صاحب السينما ثم سأل أيمن:
- لماذا تتهم الرجل أنه خنزير بخيل؟ هل تعرفه؟
تبادل أيمن نظرة طويلة مع صاحب السينما قبل أن يقول:
- أنها شتيمة عفوية.. لا... لا أعرفه..
سكت وجدي مفكرا لفترة طويلة نسبيا قبل أن يطلب استدعاء حارس الأمن (علي).. هذه المرة طلب من صاحب السينما مغادرة المكتب لينفرد بالفتى تماما.
- منذ متى وأنت تعمل هنا يا علي؟
- منذ تم افتتاح السينما سيدي.. لا يستطيع السيد صاحب السينما الاستغناء عني.
- لم أنت بالذات لا يمكن الاستغناء عنك؟
- لأنني أقوم بكل الوظائف تقريبا رغم أنني أتقاضى أجر موظف واحد.. ان صاحب السينما هذا خنزير بخيل... يجعلني أنظف القاعات بعد العرض، وأغلق السينما وأفتتحها يوميا، وأنظم دخول الجمهور وحتى أنني أمنع الفتيات والشباب المراهق من التجاور في المقاعد.. كل هذا بأجر زهيد.
- وأين كنت عندما سُرقت أموال التذاكر؟
- سيدي.. أنا لا أغادر قاعة السينما من بداية العرض للنهاية. لأباشر عملي من النظافة لمساعدة الناس على إيجاد مقاعدهم.. إذا كان أحد قد سرق أموال التذاكر. فلن يكون أنا.
- ولماذا شتمت رب عملك ونعته بالخنزير البخيل؟
تلعثم علي قليلا قبل أن يجيب:
- سأجيبك بصراحة سيدي بما أنه ليس هنا.. نعته بأنه خنزير بخيل لأنه بالفعل خنزير بخيل! ظننت هذا واضحا!
كانت لبنى هي صاحبة أعلى صوت في السينما...
منذ اللحظة التي جلست فيها على المقعد أمام وجدي، لم تكف عن الصراخ ولطم خدودها مرات ومرات... بقى وجدي أمامها صامتا تماما. وهو يشعل سيجارته الرفيعة التي يشتهر بتدخينها.
- أرجوك سيدي.. يجب أن تفهم... لم أسرق جنيها واحدا من المال.. كيف أسرق أشياء سأكون أول متهمة في سرقتها بما أنها في عهدتي!
صمت وجدي قليلا ثم سألها:
- منذ متى تعملين هنا يا لبني؟
- من ثلاثة أيام فحسب سيدي.. اقسم بالله.. ثلاثة بالله العظيم... لا يمكن أن أسمح لنفسي بالسرقة.. لقد رباني أبي على الـ....
قاطعها وجدي:
- إذن كيف تسلل السارق لغرفة حجز التذاكر وأنت لم تغادريها قط؟
- أقسم بالله.. والله العظيم.. لم أغادر سوى لدقيقة واحدة لأقضي حاجتي..
نظرت لسقف الغرفة وكأنها تحدث أحدا غير وجدي وهي تصرخ:
- ياليتني ما قمت.. ياليتني تبولت على نفسي! ياليتني طلبت من صاحب السينما الخنزير البخيل أن يضيف حماما لغرفة حجز التذاكر!
التمعت عينا وجدي، أراد أن يسألها سؤال أخير.. لكنها لم تسمح له.. أخذت تضرب خديها بيدها في هستيريا.. قبل أن تسقط أرضا فاقدة للوعي تماما.
خرج وجدي من غرفة صاحب السينما وهو يشعل سيجارة جديدة... كانت علامات اليأس تبدو على صاحب قاعة العرض وهو يقول:
- أيمن وفتاته مراهقين تافهين.. وعلي رجل الأمن أعتمد عليه منذ افتتحت السينما.. لبنى موظفة جديدة وشخصيتها هيستيرية تماما.. لا أظن أن أحدهم هو اللص.
نفث السيد وجدي دخان السيجارة بفخر وهو يقول:
- أعتقد حان الوقت لتستدعي أولادي وتفتح قاعة العرض وتبدأ في تشغيل الفيلم لنا وحدنا.. لقد عرفت من الجاني.
سيتم نشر الحل بعد ٢٤ ساعة
التعليقات