بجانبي شبح

بقلم أيمن الشنديدي

في هذا العالم , ينقسم البشر لثلاثة صنوف : الأول هو من لا يؤمن بما يسمى أشباحاً بل و يجدها خزعبلات اختلقتها أفئدة الأطفال المذعورين , أما الثاني فهو من يؤمن بها حقاً و يجدها مسألة ملهمة مثيرة للاهتمام , و هو في الحقيقة لم ير شبحاً قط و لكنه يمني النفس بأن تظهر له إحداها فيصدق ظنه و يذهب ليتبجح باكتشافه العظيم أمام الصنف الأول .

أما الثالث , وهو الأشد ندرة ,فهو من رآها حقاً , هو من تتمثل له الأشباح بين حين و آخر مقوضة ظنه بأنها مجرد أضغاث , ولكن هذا الصنف ليس كالثاني , فلا يذهب متبجحاً أمام الآخرين بل هو يؤثر أن يحتفظ باكتشافه لنفسه مرجعاً ذلك إلى عدم اليقين أو الخوف من هذه الأشباح بعينها لكونها من خوارق الطبيعة , أو الخوف من اتهام الناس له بالجنون و هذا الخوف أشد وطئاً , لذلك يحاول هذا الصنف أن يتخلص من الأشباح بنفسه أو يقوم بالتعايش مع هذا الواقع , و أنا من هذا الصنف .

و كأن خرق الطبيعة و جدني شخصاً مثيراً للاهتمام , فبالرغم من أن رؤية شبح ولو لمرة واحدة في العمر تعد شيئاً عظيماً , إذا به لا يمنحني شرف رؤية واحد فقط بل من علي بثلاثة.

لم تباغتني الأشباح جميعها في نفس الوقت بل أحسب أنها جاءت بصورة فيها شيئ من التتابع الذي لا يفصل بينه وقت طويل بل يأتي كقطرات المطر التي لابد أن يكون لإحداها صفة الأسبقية و لكن يتعذر علي أي إنسان أن يعرفها , هكذا كانت أشباحي مثل تلك القطرات .

و لكن لتسهيل الأمر علي عقلي , قمت بإعطاء كل منهم رقماً و في الحقيقة لم يكن هذا الترقيم مبنياً علي أي أساس فقط جاء هكذا كما جاءت تلك الأشباح .

فالرقم واحد منحته لهذا الشبح , الذي يظهر للناظر بأنه امرأة عادية و لكن إذا دقق النظر قليلاً سيكتشف أن لها التوا ًء رهيباً في الرقبة فدائماً تراها ناظرة للأسفل , فإذا غلبك الفضول و قررت النظر لوجهها فلن تر الكثير فقط هذين الخطين الذين حفرتهما الدماء المنسابة من عينيها حالة محل الدموع المعتادة , أما العينان فلم تكن لهما لمسة الحياة التي تمتلكها الأرواح الحية , كانت العينان كأن الظلام اقتلعهما , و الوجه عامة لم يكن خيراً منهما فكان متجهماً كئيباً قاتماً كأنه ُسلخ من الحياة , أما الفم فكان يرتعش في خوف عندما يقول تلك الكلمات التي لم تنطق بغيرها " أنا آسفة " .

و الرقم اثنان ذهب لشبح غريب يدب الرعب أو َل ما تراه العين و لكن سرعان ما يتلاشي هذا الرعب قليلاً عندما تراه لا يفعل أي شيئ و كأنه من أثاث المنزل , أما سبب الرعب الذي يبعثه في النفس في أول لقاء , فكان بالتأكيد هيئته التي تجعلك تفر فرارك من الطاعون , فكان شاباً صغيراً أحسبه في سني تقريباً – سبعة عشر عاماً – و لكن عينيه .......لم يعد لهما أثر ..... ليستا في موضعهما ....... و كأن مثقاباً قد اخترق عينيه فأخرجهما من محجرهما , تاركاً وراءه حفرتين تئنان من الظلمة التي حلت محل العينين .

لم يكن يمتلك حفرتين بل ثلاثة , لم يكن موضع الثالثة مثل أختيها بل كانت بعيدة قليلاً عنهما , فبينما كان الأوليان في الوجه , كانت الأخرى في الصدر خارقة منتصفه , تقريباً حيث يسكن القلب و لكن المسكن كان خالياً من ساكنه فكأن يداً ُمدت فانتزعته انتزاعاً .

و لكن سرعان ما يتبدد الخوف رويداً رويداً عندما تراه هناك واقفاً بعيداً عنك تشعر بأنه ينظر إليك و

لا ينظر في نفس الوقت مما يزيده غرابة فوق غرابة شكله , و كان عكس الشبح الأول فلم يكن ينطق بأي شيئ .

أما الرقم ثلاثة فكان أشدهم رعباً , عندما يظهر , كأن الهواء ينفر منه فيتركني شاعراً باختناق شديد يصل أحياناً إلى حد الإغماء , فما أستيقظ إلا و أنا أرتعش بجنون و كأن أحد الأبالسة قد تملكني ثم ما ألبث قليلاً حتى أفيق , و لكن عندما أبدأ في نسيان هذا الشبح المروع إذا به يظهر مجدداً مكرراً تلك الأحداث المروعة .

ربما يُخيل إليك أن هذا الشبح كان شيطاناً من الشياطين السبعة , و لكني في الحقيقة لم أتبينه كاملاً قط , فبمجرد أن أرى ظله و هو يقترب مني شاهراً ابتسامته مطلقاً قهقهته المقيتة , كانت تصيبني كل هذه المصائب قبل أن أرى أكثر من ظله .

في الظروف الطبيعية عندما يخبر شخص ما الآخرين إنه قد رأى شبحاً , تراهم يحدقون إليه و الدهشة و الفضول واضحان على وجوههم و هم يصفونه بالحظ بل بعضهم يحسد حياته التي يظنونها مليئة بالإثارة التي من فرط إثارتها قد جذبت إليها الأشباح , و لكني أرى نفسي عكس تلك الأوصاف , فأجد نفسي مغبوناً خاسراً أما حياتي فأراها بائسة رتيبة كئيبة قاتلة .

الوجه هو بصمة الإنسان , به تعرف العديد من المعلومات عن صاحبه , فالمجرم يتجلى جرمه على وجهه , و المحسن يبدو وجهه محسناً , و المعدم لوجهه نصيب في فقره و عوزه , أما وجهي فكان وجه مسخ .

كانت عيناي تبدو لمن ينظر إلي و كأنهما مغلقتان و لكنهما في الحقيقة ليستا كذلك , كانتا دائماً مفتوحين لولا جفنيهما الذين قرارا أن ينزلا قليلاً من مكانهما صانعين بذلك مظلتين عظيمتين تغطيان العيون .

و لم يكتفي وجهي بامتلاك هذه العيون , فكان لأنفي اعوجاج كما لدى شخص ُضرب ف ُكسر أنفه , أما فمي فلم يكن يعاني من خطب في الحقيقة و لكن ما

لحقه الضرر كانت الكلمات التي تخرج منه فكانت تخرج منه متفرقة ضعيفة غير واضحة لا تستطيع توضيح ما يريده فمي من قول , لذا كنت مسخاً بعينين نائمتين و أنف أعوج و لسان ثقيل , لذا لا عجب أن تأتي إلي الأشباح ظانة أنني من طينتها .

بالرغم من معرفتي بكوني مسخاً خرق مفاهيم الطبيعة إلا أن هناك من كان ينظر إلي بعينين لم تريا تلك الحقيقة , فكان هناك أمي التي قدمت للعالم هذا المسخ .

ربما شعرت أمي بالذنب و أحست أنها السبب في منح الحياة لهذا المسخ البشع , أو ربما أدركت هذا بعد ما أخبرها أبي بذلك مراراً و تكراراً .

كانت أمي دائماً ما تعاملني و على محياها ابتسامة تشع رأفة و شفقة و حنان , و كان أبي نادراً ما ينظر نحوي و لكن في المرات القليلة التي قام بها كنت أشعر بغضبه و اشمئزازه و قسوته .

في الحقيقة إذا عادت بي ذاكرتي سنين عديدة سابقة , فأنا أتذكر معاملة مختلفة من أبي , كان ينظر إلي أكثر , و كانت نظراته تفيض شفقة و حزن و رأفة عكس ما هو عليه الآن , ربما كان حينها لم يعرف مقدار القبح الذي كنت عليه ؟!

كانت هذه حياتي في البيت , بين أم ضعيفة حنون , و أب صارم غاضب ثائر , فإذا خرجنا قليلاً من نطاق البيت و اتجهنا للعالم الخارجي , فكان الأطفال يرتعبون من رؤيتي , و إن كان بعضهم يقف محدقاً بفضول و كأنه يشاهد حيواناً غريباً لم يره قبل في حديقة الحيوان , أما البالغون فكانت ردود أفعالهم أكثر تنوعاً من الأطفال البسطاء :

كان بعضهم يسير مسرعاً دون أن ينظر , و آخرون كانوا ينظرون و سرعان ما ترى في أعينهم التأفف و الاشمئزاز ثم يسرعون هم أيضاً مثل الأولين , و كان بعض الناس ما تجد منهم شفقة و حزناً على حالي , و أما النذر القليل كان لا يتفاعل كثيراً, فكانوا لا يعبئون بشكلي كما لا يعبئون بغيري .

و لكن في المدرسة كان الجميع من الفئة الثانية ,

كان لقبي بين زملائي ( وحش المدرسة ) , ومن الغريب أنهم كانوا لا يعاملونني كما تُعامل الوحوش عادة , فالوحوش هي منبت الرعب و الدمار و حري بالإنسان ألا يعبث معها , فكانوا يستهزئون و يضحكون من هذا الوحش .

إحقاقاً للحق , لم يكن جميع الطلبة من الفئة الثانية , كان هناك اثنان من الفئة الثالثة , لم أشعر منهما بنفور تجاهي بل بشفقة تشبه شفقة أمي , وكان هما الوحيدين في هذه المدرسة الذين لم يجدا في صفة الوحش , و لكني في الحقيقة لم أكن سعيداً جداً بوجودهما بجانبي , فقد وددت لو أنهما من الفئة الرابعة .

كان أحدهما فتًى و الآخر فتاة , فأما الفتى فكان صديقاً لي بل كان الوحيد الذي أستطيع أن أصفه بذلك , أما الفتاة فلم نتحدث قط , و ليس من العجيب أن أدرك شفقتها علي , فإن النساء ذوات حس مرهف يصعب إخفاؤه عن الناظر إليهن .

كانت حياتي تدور بين البيت الذي كان ما يخلو من قتال بين الأم الحنون و الأب القاسي الذي كان يفضي بطبيعة الحال إلى هزيمة الأم هزيمة ساحقة بعد أن يلقي الأب عليها ما كان يلقاه من عمله محملاً إياها مسئولية ما ينزل به , متهماً إياها بكونها السبب في منح الحياة لمثل هذا الوحش , و بين المدرسة التي كان ينتظرني فيها بعض الزملاء لكي يضحكوا قليلاً و يلقوا المزاح على شكلي المميز و أحياناً ما كان يتعدي المزاح حدود القول و يصل للفعل , و لكني لم أكن وحيداً في المدرسة كما لم أكن وحيداً في البيت , ففي البيت كانت أمي تدفع عني قسوة الأب , و هنا كان صديقي الذي يدفع عني هذا المزاح المؤذي بالرغم ما كان يلقاه من سباب و وعيد .

كنت أحسب حياتي هادئة و لكني لم أدرك أنها كقدر ُوضع على نار و قد اقترب ما داخله من الغليان .

مر القليل من الوقت حتى بدأ يتراءى لي الشبح الثالث و معه تبدأ الأهوال التي كنت أمر بها في حضوره .

في يوم ما , بينما يدور القتال المعتاد بين أبي و أمي و الذي كان من طرف واحد كما هي العادة , قد خرج فجأة عن المعتاد , فكان أبي في ثورة لم تسبق و أن رأيتها ,كان شديد الغضب و كانت أمي في حالة ضعف و انكسار لم أرها من قبل أيضاً , و على غير العادة وجدت نفسي ألقى من أبي مثل ما كانت تلقى أمي و التي كانت تحصل على حصتي في العادة , و لكن هذه المرة لم تحرك ساكنة , كان وجهها ميتاً كما عيناها و أظنها لم تدرك ما حصل لي إلا بعد أن انصرف أبي تاركاً إياي على الأرض و قد أدمى وجهي , حينها استيقظت أمي من سكونها المخيف و اتجهت نحوي , و أخذت تعانقني بقوة , وهي تقول بفم مرتعش " أنا آسفة " و كانت الدموع تتساقط , و لكن ُخيل إلى أنها لم تكن دموعاً من ماء , بل من دماء .

في اليوم الذي تلا تلك الواقعة , ماتت أمي .

لم يكن البيت وحده ما أصابه بعض التغيير , كان للمدرسة نصيب أيضاً , فبالرغم من أن المزاح الثقيل استمر فما كان غريباً هو أن صديقي الوحيد بدأ يتملص من مساعدتي قليلاً قليلاً , إلى أن جاء يوم كان فيه الزملاء مشغولين بضربي, كما يفعل أبي , مر صديقي بجانبي و نظر إلي و لكن سرعان ما أكمل طريقه و كأنه لم ير شيئاً , و لكني لم أستطع أن ألومه أو أن أستغيث به فقد رأيت في إحدى عينيه نفس الشفقة و لكن في الأخرى ....... كان الخوف , و عندما غاب عن ناظري الصديق , نظرت إلى وجوه الزملاء و هي لا تحاول إخفاء الابتسامات الساخرة التي تقول : " لم يعد لك بعد اليوم من سند ".

أصبح الشبح الثالث دائم التردد بعد ذلك مصاحباً معه الشبحين الأول و الثاني , و بالرغم من أن الأول و الثاني لم يُلحقا بي أي أذي و لكني كنت متوجساً بجوارهما ليس خوفاً بل كان بسبب شيئ مثل تأنيب الضمير , في الحقيقة كنت أريد الذهاب إليهما وأن أحتضنهما بقوة و لكن دائماً ذلك الشعور كان حائلاً بيني و بينهم .

أما الثالث فأصبحت ابتسامته أوسع و قهقهته أشد خبثاً و سخرية , و أصبحت أستطيع أن أتبين قليلاً من ملامحه .

الحياة الهادئة التي كنت أزعم أنني أمتلكها , الآن اختفت , فأصبح يومي كالتالي : استيقظ علي قبضة أبي , و لقد كان نومي على وقعها أيضاً , مع بعض السباب و الاتهامات بأنني السبب في موت أمي , ثم أخرج نحو المدرسة , و في الطريق أرى الفئات الأربعة , و يستقبلني زملائي مع بعض القبضات و السباب مثل أبي , ثم ينتهي الدوام , و بعد وداع صاخب من زملائي يشبه كثيراً استقبالهم , أعود للبيت لألقى نصيبي المسائي من أبي , و هكذا أصبحت حياتي تدور بين ضربات من جهة و سباب من جهة .

في يوم ما , في المدرسة , و بعد نيلي لحصتي الصباحية من أبي , و جدت هذه الفتاة , التي كانت نظراتها نحوي توحي بالشفقة , كان الشفقة و

الحزن يفيضان من عينيها , بل شعرت أنها تريد أن تذهب نحوي و تأخذ بيدي لتكون سنداً جديداً لي , و لكني لم أشعر بالسعادة لذلك , أحسست بأن قلبي يفور و صدري يضيق فأكاد اختنق , فقلت في نفسي موجهاً حديثي إليها : " أرجو كِ لا أريد شبحاً رابعاً ".

في نهاية هذا اليوم , و بعد أن ودعني زملائي وداعاً لائقاً , سرت عائداً للمنزل , و لكن قلبي لم يهدأ و أخذ صدري يضيق أكثر و أكثر , و أحسست أن روحي بدأت تغادر جسدي , وشعرت كأن أحداً أخذ ساطوراً فسلخ به جلدي , كان ضباب استولى على عيني و طنين تملك أذني و صداع مرير شق رأسي , و أصبحت أنفاسي أسرع , كنت على وشك السقوط صريعاً ...... و لكن فجأة ظهر حجر صغير قد صدم ظهري فأخرجني وقعه من هذا الهول , التفت لأرى مصدر هذا الحجر و الذي كان ليس إلا طفلاً صغيراً قد أخرج لسانه و قال :

" مت أيها المسخ !".

كانت السماء ملبدة بالغيوم التي سرعان ما كان المطر هاطلاً منها , لم أتجه إلى المنزل مباشرة , قررت أن أمر بجسر قريب أولاً , وقفت أمامه , و المطر من فوقي و قد أغرقني , و الجحيم من تحتي فاتحاً فاه , و العالم من خلفي يضحك باستهزاء , قررت أن أصير شبحاً أيضاً , قررت أن أكون شبحاً و لكن ليس مسالماً مثل الأول و الثاني بل شبحاً مثل الثالث , لعنة على من يظهر أمامه , و كم كنت أتمنى أن أظهر شبحاً أمام أبي و زملائي .

رميت حقيبتي , و نظرت إلى الماء أسفل الجسر و الذي كان مضطرباً لاستقبالي , لاستقبال مسخ موحش مثلي ,

وقبل أن أصير شبحاً بثانية واحدة , إذ بقهقهة خبيثة من ورائي و قد عرفت صاحبها و لكنه أضاف قائلاً هذه المرة : " أخيراً استسلمت ! " التفت ورائي لأراه فكان هو الشبح الثالث , بوجهه الكالح , و عينيه المغلقتين , و أنفه المعوج ,........... كان أنا .

التقت عينانا , لم يظهر على التفاجؤ , ربما كنت أعرف هوية الشبح الثالث منذ أول لقاء و لكني كنت أهرب من مواجهته , أما هو فظل ساكناً برهة و على شفتيه ابتسامة ساخرة ثم قال فجأة : " ها أنت ذا ! أخيراً قررت النظر إلي " , ثم أطلق قهقهة باردة.

" ماذا تريد مني؟ " سألته كرجل لم يبق له شيئ . " لا أريد منك شيئاً" ثم ضحك بخبث مرة أخرى .

" إذن فلتتركني في سلام" قلت له و قد حولت وجهي عنه نحو الماء كرة أخري .

" أنا لا أمنعك , لست أنا على الأقل " أجاب في برود , " أنت من تصد نفسك " .

" ما الذي تقول؟ " قلت في غضب و هو فعل لم أقم به من قبل .

" أنت مجرد جبان " أجاب في حزم لم أتوقعه منه .

" ماذا؟ ! " تساءلت متعجباً و لكن في الحقيقة كنت أعرف ذلك جيداً .

" أنت تعرف ذلك جيداً " قال في حزن ثم نظر إلى جانبي و قال : " حتى إنك لا تستطيع مجابهتي بمفردك ".

نظرت بجانبي فوجدت الشبح الأول و الثاني و قد حضرا.

" لم تنفك تستند عليهما و هما بجوارك و الآن تريدهما بجانبك حتى و إن لم يعودا حولك بعد الآن " قال في أسف صاحبه استهزاء .

" أنت تعرف أنني لم أرد ذلك " قلت في غضب امتزج مع حزن.

" بل أعرف ...... لأنني أنت " " لم أرد أن يتعذبا بسببي "

" لقد اختارا ذلك بنفسهما , لذا لا يمكنني لومك حقاً , و لكنك استندت عليهما كثيراً "

" و هل ذلك خطأ ؟! " صحت في صوت غشاه البكاء.

" لا لم يكن خطئاً أن تستند عليهما , و لكنك مخطئ في أنك استندت عليهما ......و لم تفعل ذلك معي " ثم صمت و قد علاه الحزن لأول مرة .

ألجم الحديث مع الشبح الثالث لساني , لم أفكر قط أن حياتي التي كانت نيراناً تستعر سببها فقط هذا الخطأ , فقط لأني لم أواجهه من قبل , فقط لأنني

كنت أهرب دائماً عندما يأتيني , فقط لأني أسلمت حياتي لغيري و لم أحوال تصريفها بنفسي , فقط لأنني أخاف من الأشباح .

نظرت إلى أعلى و قد اختلطت قطرات المطر مع دموعي المنسكبة , فأصبحن كياناً واحداً , ثم نظرت إلى الشبحين الأول و الثاني , كنت دائماً ما أقول أن سعادتي معهما لم تكن كاملة , و لكني الآن كم أود في هذه السعادة الناقصة , لقد ضحا بحياتهما و سعادتهما و شقائهما لأجلي , بالرغم من أذيتي لهما دائماً , فكانا دائماً بجانبي .

تقدمت خطوة ثم تلتها أخرى ثم تلتها أخريات , حتى وقفت أمامهما , و بدون أن أدري , و جدت نفسي احتضنهما بشدة , وجدت نفسي أبكي بحرقة , وجدت نفسي أصيح عالياً :

" شكراً لكما على كل شيئ !"

ابتسما أخيراً , ابتسمت تلك الشفاه أخيراً التي دائماً ما كانت تردد كلاماً واحداً أو صامتة لا تتحرك , ثم شعرت بوجودهما يتلاشى رويداً رويداً حتى أصبحت لا أعانق إلا هوا ًء.

كانت الدموع تنسكب بلا توقف , و شعرت بقواي تخور و أن جسدي لم يعد يتحمل , و لكني لم أستطع أن أسلم نفسي إلى ذلك الآن , فما زال هناك واحد .

نظرت إلى الشبح الثالث بنظرة لم تكن كما العادة , نظرة خوف و رعب , بل كانت هذه نظرة حنين .

ذهبت إلى حيث كان الشبح الثالث , نظرنا إلى بعضنا طويلاً , إلى أن مددت يدي نحوه , نظر قليلاً إلى اليد الراغبة في المصافحة , ثم قرر أن

يرد عليها , ما أن تصافحت أيدينا إلا و قد جذبته إلي محتضناً إياه هو الآخر ,

تعجب في بادئ الأمر و لكن سرعان ما ارتسمت ابتسامة على وجهه , لم تكن ابتسامته المعتادة , ابتسامة السخرية و الاستهزاء , كانت كابتسامة شخص انتظر طويلاً قدوم حبيب ....... و قد جاء أخيراً , ثم قال :

" أخيراً استسلمت ! " ثم تلاشى نحو قلبي .