كانت الشمس تنحدر باتجاه اليمّ نزولاً في طريقها للغروب، سحب نفساً من سيجارته وهو يتأمل السماء ساهماً، نادرة هي تلك الأيام التي شهدها من هذه النافذة و كانت السماء تتشح فيها باللون الوردي الهادىء مع الأزرق البحري و هي تسوق الغيوم معها ندفاً فوق البحر.

سحب نفساً آخر أطول من الأول، يوم جميل يا جميل… قالها في سرّه: كان من الأفضل اختيار يومٍ اخر للـ... قاطع رنين جرس باب المكتب سلسلة افكاره.

تجمد للحظات، لم يكن على موعد مع احد، راجع كل أحداث يومه التي بدأت منذ الفجر و هو يعمل على انهاء جميع ارتباطاته و ختمها بكتابة رسالته لـ... رنين الجرس يزعجه مرة أخرى و يبدد أفكاره كـ (فرد) الهواء، وضع سيجارته في المنفضة و اتجه ليفتح الباب.

كانوا ستة أشخاص، اثنان بزيٍّ رسمي و الباقي بملابس عادية.

-مكتب سعيد الحامض؟ سأله أحد العاديين.

-لا...

-لكنه مكتب تجاري... صحيح؟ سأله أحد الرسميّين.

لم يكن في مزاج للجدال، و كان ذهنه يقطع تذكرةً على خطوط أخرى غير الخطوط التي يفكر فيها حالياً لذا آثر الصراحة...

-نعم… انه مكتب تجاري…

نظر الرسميّ الآخر إلى المكتب المؤلف من غرفتين على شكل طولي تنتهي الداخلية نافذةٍ كبيرة ذات إطلالة على الشارع العام، و التفت إلى باقي المجموعة قائلاً: لن يأخذ منا وقتاً طويلاً، فليبقَ خليل معي و لينزل الباقي إلى السيارة.

نظر العاديّون بعضهم لبعض و أجاب أحدهم: حاضر استاذ، ثم اتجهوا باتجاه المصعد، ليبرز بعدها الأستاذ بطاقة تحمل صورته مع بضع عبارات تختصر مهنته في الحياة و يقول: نحن دورية مالية يا سيد … و نظر إلى صاحب المكتب متساءلاً عن اسمه.

-جميل…

-نحن دورية من وزارة المالية يا سيد جميل و نرغب بالدخول للمكتب، كرّر الأستاذ بينما نظر إليه جميل بوجه خالٍ من الملامح، و فتح فمه ليخبره بأن الوقت… لكن الأستاذ تجاوزه بدبلوماسية و دخل مع خليل إلى الغرفة الأولى فالثانية و التي كان من الواضح أنها غرفة المكتب الرئيسية.

كانت الغرفة عبارة عن مكتبين، كبيرهما في صدر الغرفة و خلفه مباشرةً نافذة الغرفة الواسعة، و الأصغر حجماً على اليسار عند الباب.

-استاذ، كمبيوتر! قالها خليل و كأنه عثر على صندوق الكنز.

-أنت تعرف عملك… قالها الأستاذ و كأنه يرمي المفتاح له ليفتح الصندوق.

نظر جميل لهما باستهجان لكنه لم ينبس ببنت شفة، كان سمع كثيراً عن هذه الحالات و الحوادث لكنها كانت المرة الأولى التي تجري معه.

نظر إلى خليل و ملامحه تقول: الا تريد كلمة السرّ؟ ليجيبه الأستاذ و قد جلس على كنبة ثنائية يمين المكتب:

-دعك من خليل سيد جميل فهو كما سمعت، يعرف عمله، هل يمكنك أن تخبرني عن طبيعة عملك التجاري؟ سأله الأستاذ و عيناه تفحصان أرجاء المكتب كـ جهاز ( السكانر ) لتقفا عند مجموعة من الأضابير التي علا الغبار بعضها.

-اعمل بتجارة الورق المستورد…

قام الأستاذ من مكانه واتجه إلى الاضابير ليحملها و استدار ليجلس على الكنبة مجدداً، بينما توجه جميل ليجلس على كرسيّه الدوار خلف المكتب الرئيسي و هو يراقب كليّهما بدون اهتمام.

-أستاذ! هناك مراسلات تجارية مع شركات أجنبية! صاح خليل.

-تمام تمام… همهم الأستاذ و يقلب صفحات أحد الملفات و عقله يستمع لصوت الطابعة الليزرية معلناً طباعة المعلومات التي جمعها خليل، اثنتان… ثلاث، خمس… يبدو أنه عثر على كنز فعلاً… قالها عقله وهو يحاوره.

-يظهر من هذه الملفات أنك تعمل منذ عام 1999… صحيح؟

-صحيح…

-هل لك شركاء؟

-لا…

-من هو علاء المرادي؟

نظر جميل للأستاذ وهو يرتدي قناعه الخالي من الملامح مجدداً و أجاب بعد ثوان: علاء كان شريكي و صديقي…

-و...؟

-توفي في تفجير مبنى الطابو العام الماضي…

-تمام… قالها الأستاذ وهو مستغرق بتقليب الأوراق.

رمقه جميل بنظرة لم يرها الأستاذ تحمل في طياتها خليطاً من الكراهية و المقت... كان لا يطيق رؤية موظفي المالية او التموين او جباة الضرائب او حتى مراقبي ساعات الكهرباء، ويراهم مجرد روبوتات بلا ضمير مبرمجة لأداء وظيفتها بلا مشاعر او عواطف.

-أستاذ! يوجد فواتير بالدولار!!

رفع هنا الأستاذ رأسه و قام إلى خليل ليرى عمّا يتحدث عنه، لكن البيانات كانت واضحة، لا تحتاج إلى شرح.

-ألا تعلم أن التعامل بالعملة الصعبة ممنوع يا سيد جميل؟ سأل الأستاذ جميل وهو عائد إلى الكنبة بين الملفات، بينما اطرق جميل برأسه و هو مازال مسافر بذهنه بعيداً عن عالم الأستاذ و خليل الثرثار.

-اطبع كل شيء يا خليل و بعدها سنتحدث… قال الأستاذ لـ خليل وهو يتناول الآلة الحاسبة ليقوم ببعض العمليات الحسابية وتوجه بالحديث لـ جميل:

-فلنقل يا سيد جميل أنك تستورد وسطياً في العام 4 حاويات ورق أي ما يعادل حوالي 80 طن، بالرغم من أني لاحظت انك استوردت 5 عام 2007 و 7 عام 2009 لكن سنأخذ المعدل الوسطي كرمى لتعاونك معنا، وسنحسب سعر الطن كما هو واضح في الفاتورة التي طبعها خليل 3600$ فيكون المجموع:

3600x80=288000$

و قيمة ضريبة الدولة على الطن هي 2% فيكون المجموع:

288000x2*100=5760$

وهذا طبعاً حساب العام الواحد لذا يجب ضربه بعدد سنوات عملك منذ عام 1999 كما صرحت فيكون المجموع:

5760x19=109440$

و طبعاً نحن لا نتعامل بالعملة الصعبة فسنحول القيمة لليرة السورية على سعر المركزي فيكون المجموع مضافاً عليه طبعاً مصاريف نثرية 1977 ليرة عن العام الواحد، كما تعلم، طوابع… مجهود حربي… إعادة إعمار… اختام… 19 سنة:

109440x700+37563=76645563

-تمام… قالها الأستاذ منتهياً، المجموع ست و سبعين مليون و ستمائة و خمس و أربعون ألف و خمسمائة و ثلاث و ستون ليرة سورية بالتمام و الكمال.

-أستاذ، هناك فواتير شراء أكياس هدايا...

كان الآن دور الأستاذ ليرتدي القناع عديم الملامح ليلتفت لـ جميل ويقول بلهجة مليئة بالعتاب مع غمزة من عينه اليسرى: هكذا لن يتمّ العمل بشكل جميل يا جميل… عليك أن تعترف بكل ما تعمل به يا صديقي و إلا ستطول جلستنا معك و تطول و تطول...

نظر جميل إلى خليل ملياً قبل ينقل بصره للأستاذ لثوان و اطرق مجدداً برأسه لثوان أخرى كأنه يحسم أمره بشأن ما ليرفع رأسه ويقول:

-اعتذر يا أستاذ، لقد اخفيت عنكم الكثير و تأخرت أكثر في دفع حقوق الدولة عليّ و حان الآن وقت السداد.

-عفارم عليك يا سيد جميل… هذا الكلام الزين… اطبع يا خليل، اطبع…

-لكن واجب الضيافة يأتي اولاً… صحيح أستاذي؟

-لا نريد إلا سلامتك يا سيد جميل، و نقودك طبعاً… قالها ضاحكاً ضحكةً عريضة ملأت وجهه و شاركه فيها خليل كنوع من الدعم المعنوي و(تمسيحاً للجوخ).

-قهوة؟ سأله جميل.

-قهوة قهوة، لكنك تعلم أن القهوة و السيجارة صنوان، فاسمح لنا بالتدخين و لتكن القهوة سادة بعد اذنك.

-لك ذلك أستاذنا الغالي… قالها جميل و اتجه إلى ركن المطبخ الصغير في الغرفة الأخرى.

في تلك الأثناء، أشعل الأستاذ سيجارته وقام ليفتح النافذة متأملاً منظر البحر بعد أن غربت الشمس و بدأ الظلام يحيك خيطانه الداكنة ليلبسها الليل معلناً انتهاء عمر هذا اليوم بنجاح بالنسبة للأستاذ رغم عدم عثوره على من جاء من أجله لكن جميل كان غنيمةً ثمينةً ايضاً، قالها في سرّه و اضاف وخطوات جميل العائدة مع القهوة تطرق سمعه: هكذا يكون العمل الجاد.

-أستاذ! فـ… انقطع صوت خليل و كأن بطاريته قد فرغت وتبعه صوت يشبه صوت تحطم حصالة النقود الفخارية التي يستعملها الأطفال، التفت الأستاذ مستفهماً ليرى جميل يضرب رأس خليل من الخلف بمطرقة حديدية ليفتح فيه شرخاً بان فيه عظم جمجمته الأبيض و يتكرر صوت تحطم الحصالة الفخارية مجدداً.

تجمدت قدما الأستاذ في أرضه من هول ما رأى، و عندما استطاع لملمة شتات نفسه تحرك هارباً لكن جميل التفت إليه و وضع قدمه على طرف المكتب ليدفعه بعزم ملأه الحقد و الكره ليحجز الأستاذ بين المكتب و الكنبة، و يقفز على سطح المكتب لينقض على الأستاذ الذي تهاوى مشلولاً من الرعب وهو يصرخ فيه بذعر و قد شحب وجهه وارتعش صوته:

-جميل… سـ سـ سسيد جميل ماذا تفعل!!! الأمور لا تستأهل أن تصل لهذا الحدّ… فففففكّر بنفسك… فففكّر بعائلتك…

-عائلتي سافرت الأسبوع الماضي، و كنت انوِ اللحاق بهم عند مجيئكم، لكن بعد محادثتنا المالية المطوّلة، قررت اصطحابك و صاحب اللسان الطويل معي… ما رأيك؟؟؟

-أنت مجـ….. لم يمهله جميل ليكمل كلامه و عاجله بضربة من مطرقته اراد بها رأسه لكن ابتعاد رأس الأخير للخلف جعلها تصيب حنكه لتتهشم عظام فكه و تتبعثر اسنانه على أرض الغرفة و تتناثر الدماء من شدقه ليترنّح لبرهة و يهمهم: لماذا...؟؟

نظر إليه جميل و اجابه و قد لبس قناعاً يحمل ملامح التشفّي و الرضا: لا اعلم لماذا… اظن انه التوقيت الخطأ، و حظكما السيء، و انهى كلامه بضربة اخيرة على جبهته ليخرسه إلى الأبد، راسماً جدولاً متشعباً احمر اللون يجري على ورق الحائط الرمادي خلفه.

كانت الدماء قد لونت ثيابه كلها حتى حذاءه، ارتسمت ابتسامة حزينة على وجهه متذكراً زوجته حين رأته يغادر المنزل و حذاءه متسخ و تقول له: انتظر، دعني المع حذاءك على الأقل كي لا تسمع كلام الناس الفارغ، اجابها مبتسماً و هو يرتدي معطفه: ليس عندي وقت، كذلك الناس، سأعود و المعه و العب مع الاطفال و نشرب القهوة كذلك، و غادر سريعاً دون أن يلتفت، ليعود و يرى البناء اسوداً متفحماً بعد احتراقه إثر ماس كهربائي حدث بعد عودة أطفاله من المدرسة بدقائق.

اتجه إلى مكتبه مجدداً وأمسك قلمه و تابع الكتابة:

....... لذا سامحوني لكني اشتقت لهم… جميل.

التفت إلى النافذة ليفتحها و يصعد على طرفها راجياً رؤية البحر للمرة الأخيرة يناجي السماء الوردية لكن للأسف كانت الشمس قد غربت منذ زمن والساعة قد تجاوزت السادسة معلنةً قطع التيار الكهربائي عن الحيّ لتغيب ملامحه و يعمّ السواد كل شيء ليقول جميل بصوت يشبه الهمس في أذن أحدهم: بسيطة… الحياة من بعدكم مظلمةٌ أساساً.