مرَّ بعض الوقت منذ آخر مرة قمتُ فيها بهذه الرحلة، لأني تعودتُ - في السنوات الماضية - على استقلال الرحلات الجوية الاقتصادية بين السعودية والأردن، التي أصبح سعرُها قريباً جداً من سعر الحافلة بحيث لا يستحقّ المعاناة الإضافية - بنظري. ولكن في مثل هذا الوقت من العام يصعبُ كثيراً الحصول على طائرة بين عمّان وجدة بأقل من 300 دولار كحدّ أدنى، وبالتالي اضطررتُ (في سبيل إرضاء الأهل وزيارتهم) لخوض رحلة الحافلة هذه الكريهة إلى قلبي جداً خلال الساعات الأربع وعشرين الماضية.

السفر بالحافلة في بلد عملاق مثل السعودية، وصحراوي وترابي وحارق مثلها أيضاً، هو إحدى التجارب الحياتية الأكثر تعاسة التي يمكن أن تمرّ بها. من أهم سمات التجربة أن فيها كثيراً من الاهتزاز، ونعاساً شديداً، وتراوحاً لا ينتهي ما بين الجوع القاتل وامتلاء المعدة مع الاهتزاز والرغبة بالتقيأ، وبالطبع الكابوس الأكبر المتمثل بعبُور الحدود البرية، مع استمرار جميع هذه الأشياء مع بعضها لمدّة 22 ساعة متواصلة من البؤس والتعاسة.

لكن أكثر ما يزعجني على المستوى الشخصي في السفر بالحافلة هو كمية الوقت الضائع. أنا لا أستطيع النوم أبداً في المركبات المتحركة، ولذا فإن السفر بهذه الطريقة يعني ضياع يومين مُتتاليين لا أفعل فيهما شيئاً سوى تأمل عشرات الآلاف من الأمتار من الصحارى الترابية على يميني وشمالي في ضجرٍ مُميت. بكلّ حال، من حسن الحظ أني جئتُ مستعداً هذه المرة.

اصطحبتُ معي في هذه الرحلة حاسبي المحمول المشحون بالكامل، وجوالاً مع خط إنترنت، وكتاباً جيداً جداً. الجزء الأول منها كان الأفضل: حتى خروجي من الأردن كان لدي اتصال مُمتاز بالإنترنت، فقضيتُ معظم الوقت بالتصفح والدردشة مع الأصدقاء والأهل وتبلغيهم بمرحال التقدم في الطريق. كنتُ قادراً أيضاً على استعمال حاسوبي المحمول وإنجاز أعمال حرة مهمة مُتراكمة عليّ (مع أن هذا استهلك نصف بطارية جهازي تقريباً).

توقفنا بعد ساعتين في مدينة الحسا، حيث حصلتُ على الفرصة لتناول وجبة غداء جيدة (مع أنني أكملتها داخل الحافلة لأنهم كادوا يغادرون بدوني). الأمر غير السارّ هو أنه منذ خروجنا منها بدأت شبكة الجوال تضعفُ بصورة متزايدة، وفي آخر ساعة قبل الحدود، أصبحت الوصولية إلى الإنترنت مستحيلة تقريباً، وهنا بدأت مرحلة القراءة الطويلة.

القراءة كانت أساس هذه الرحلة بالنسبة لي: لرفق السماء بي، أنا واحد من الأشخاص المُميّزين الذين لهم الخاصية الخارقة المتمثلة بالقدرة على القراءة في الأماكن المهتزة. حملتُ معي في هذه الرحلة رواية الأرض الطيبة لبيرل بك، التي حظيت مؤلّفتها بجائزة نوبل في الأدب ولها شهرة واسعة، وقد حصلت عليها من معرض الكتاب حديثاً وكنتُ متحمساً لقراءتها (وجدتُها ممتازة جداً، أسلوب الكتابة متين وممتع والترجمة عظيمة).

فتحتُ روايتي وشرعتُ في قرائتها قبل وصولنا إلى الحدود بساعة. بعد وصولنا إلى الحدود توقفنا لأربع ساعاتٍ مُضجرة مُتتالية لأجل طقس فتح الحقائب وتدمير مُمتلكات المسافرين بحجَّة "التفتيش"، ولم أفعل شيئاً طوال هذا الوقت سوى فتح كتابي وقراءته بصمتٍ وصَبْر، وأنا أتلذَّذ بوُجود ما يشغلني بين باقي المسافرين الذين لا يكفون عن ضرب أرجلهم بالأرض ونفخ الهواء بانزعاج.

وكان الظلام قد حلَّ عندما غادرنا أخيراً ذلك المكان التَّعس، فشعلتُ الضوء الخاصّ بمقعدي في الحافلة، وتجاهلتُ أمارات الانزعاج التي أبداها جاري من الإنارة، حيث كان لا زال لديَّ الكثير لأقرأه. إلا أن الحافلة ما لبثت أن توقفت بعد الحدود بقليل، حيث كانت لدينا استراحة.

وعليَّ أن أذكر أن أحد المسافرين، وهو يركبُ بعد مقعدين إلى يميني، كان غريب الأطوار جداً مُنذ بدء الرحلة. فمنذ انطلاقنا وهو يحملُ في حضنه صندوق شوكولاة من الكرتون، وقد غلفه بكيس، ووضعه باهتمامٍ شديد فوقه وكأنه يحتاج أن يحاط بالعناية. وفي إحدى الاستراحات ذهب ليشتري شيئاً وترك الصندوق على مقعده، وتفاجأتُ بعدها مباشرة بأنني بدأتُ بسماع أصوات مخلوقاتٍ تغرّد، وكانت تبدو الأصوات قريبة جداً، وكأنها من داخل الحافلة، لكن الأمرَ لم يبدو مقنعاً.

وقد وقعت أمورٌ أكثر سوءاً بعد ذلك. فعند كل مطبّ تمر عليه الحافلة كانت تصدرُ فجأة زقزقات عالية مُرعبة عن الصندوق السريّ للفتى، فيُسرع بضمه بذراعيه وبسطهما فوقه، وكأنه يعتقد أن يديه ستحُولان دون انتشار الصوت. وفي كل مرة يقعُ الأمر كان يتبادلُ كل من في الحافلة نظرات الاستغراب والدهشة، وبدأت أشعر بالحزن على الشاب. وأما ما حدث عندَ استراحة الحدود فقد كان صادماً تماماً.

فلم يلبث هذا الشخص وأن ذهب إلى حقيبته وأخرج قاعدة بلاستيكية زرقاء اللون، وشبكاً حديدياً، فقلتُ لنفسي "آاااه.. يظنّ فعلاً أنه سوف يفتحُ قفصاً للعصافير في الحافلة"، ولم تمضِ سوى دقيقتان حتى كان هذا المشهدُ المذهل قابعاً - لدهشة جميع الركاب - في وسط الحافلة تماماً. كان الأمر غريباً جداً بحيث أن السائق جاء فزعاً وطلبَ من الشاب الإلقاء بعصافيره مع الحقائب بالأسفل، إلا أنَّ المسافرين نجحوا بالتضرّع للحيال دُون ذلك.

في جميع الأحوال، استمرَّيت منهمكاً بقراءة كتابي - الأرض الطيبة - طوال الساعات الثلاث أو الأربع التي تلت تجاوز الحدود، وبنهاية هذه المُدّة، كنتُ قد قطعت حوالي الـ200 صفحة من روايتي، وهو إنجاز مذهل ليوم واحد. ولكن مع تقدمي بالقراءة كان نعاسي يشتدُّ باستمرار، وعندما توقفتُ كانت الساعة قد اقتربت من مُنتصف الليل، ومع ذلك، وجدتُ أني لن أستطيع النوم على الأرجح، لذا أخرجتُ جهازي المحمول، وبدأت المرحلة التالية من استغلال الوقت.

فأنا لديَّ دائماً أفلام كثيرة على الـWatchlist الخاصَّة بي أتطلع لمشاهدتها، إلا أنَّ قيامي بذلك مستبعدٌ جداً دون ظروفٍ اضطرارية (مثل هذه)، ولذا كنتُ سعيداً بأني أستطيع اختيار أحدها الآن لأنهيه. وقع الاختيار على Gravity (2013)، وتمكَّنتُ من إنهائه بالكاد قبل نفاذ بطارية حاسوبي القديم المسكين. الإنتاج الفني للفلم مذهل حقيقة، مع أنه - من ناحية الأحداث - ليس ممتعاً بشكل خاصّ، أيضاً رُبّما كان يستحسن مشاهدته بظروفٍ أفضل.

وأما بعد نفاذ بطارية جهازي، فقد دخلتُ طور "حفظ الطاقة" الشخصي، حيث تكون مُحاولات النوم البائسة عديمة الجدوى. أعتقدُ أنني غفوتُ لساعتين أو شيء كذلك، لكن من الصعب التأكد، وما لبثت وأن استيقظت بحدود الرابعة صباحاً، وكان لا يزالُ أمامنا طريق طويل. كنتُ مدمراً جسدياً في أول الأمر، فاكتيفتُ بسماع الموسيقى وتأمل الطريق لعدة ساعات، وبعد السادسة صباحاً كانت قد أشرقت الشمس فعدتُ للقراءة، وبقيت على هذه الحال حتى وُصولنا في التاسعة تقريباً، حيثُ كانت الرحلة المُميتة أطول من المعتاد بقليل.

تتميز الرحلة بين السعودية والأردن بالكثير من السمات الفريدة، أهمّها أكثر التحولات الحرارية إثارة للدهشة والتي يمكن أن تمر بها في حياتك، حيث يتغير الطقسُ المحيط بك بالتدريج من درجتين فوق التجمد إلى درجتين تحت الغليان. الرحلة بائسة جداً ومقيتة، ولكن النهاية سعيدة بلقى الأهل والأصدقاء!