*(لقراءة النسخة الأصلية على مدوّنتي:

)*

ندما سألتُ مرشدة السيّاح في “باد شانداو”، وهي بلدة ريفية صغيرة في شرق ألمانيا، عن الاتجاه الذي عليّ الذهاب فيه لأصل إلى الغابة الطبيعية، نظرت إليّ باستغرابٍ شديد وقالت: “أنت الآن في وسط الغابة!”. وبعد أن حاولتُ إعادة سؤالي عبثاً، أملاً بأن أجعلها تفهمُ مقصدي، نزلت المرشدة السياحية تحتَ مكتبها وخرجت بخريطة كبيرة مليئة بالرسومات الملوّنة والجذّابة، مثل التي تظهر في المسلسلات الكرتونية.

“أنتَ هنا”، قالت لي، وهي تشيرُ بسبابتها إلى مجموعة من المربّعات البنية، التي تمثّل وسط البلدة الصغيرة، “إذا كنت ذاهباً إلى مرتفعات (شرامشتاين)، فعليك أن تخرج من البلدة من جهة الشمال وتصعد الجبل، إلى قرية أوستراو، وتتجه منها شرقاً، عبر وادٍ منخفض، وصولاً إلى الغابات، ومن هناك تصعدُ السلالم إلى الجروف الصخرية”. سألتُها عن وسيلة النقل التي عليّ أخذُها لعبور هذه الأماكن كلّها، فابتسمت وهي تقول: “ساقاك!”. ولم يكُن في ملامحها المبتهجة ما يدعو للخوف من هذه الرحلة اللطيفة على السّاقين، رغم أن الساعات الثماني التالية -التي قضيتُها بين الجبال- لم تكُن لطيفة بالقدر نفسه دوماً، بل ليس من المبالغة بمكانٍ القول أنها انطوت على شيءٍ من الفزع والخطورة المقلقة قليلاً.

رحلة ألمانيا

وصلتُ إلى ألمانيا في اليومين الأخيرين من شهر مارس الماضي لحضور مؤتمر “قمّة ويكيميديا” أو Wikimedia Summit 2019، وهو اجتماعٌ سنويّ يهدفُ لجمع ممثلي ويكيبيديا (الموسوعة الحرّة المعروفة) من جميع دول العالم في مكانٍ واحد لمناقشة التعاونات والشراكات الممكنة بينهم ولتعلّم كيفية إقامة مشاريع جديدة لإثراء موسوعة ويكيبيديا في بلدانهم. وقع الاختيار عليَّ في هذا العام لأكون ممثلاً عن منطقة بلاد الشام، أي عن الأردن وفلسطين وسوريا ولبنان، وقد كان المؤتمر -مثل العادة- زاخراً بالنشاطات والاجتماعات والنقاشات الحامية والعمل الشاقّ، الذي يأخذ شهوراً طويلة بعد المؤتمر لاستكماله.

انعقد هذا المؤتمر في برلين، وقد تكرَّم عليّ موظّفو تأشيرة الشنغن بثلاثة أيام بعد انتهائه سمحوا لي -خلالها- بالبقاء على أرض الاتحاد الأوروبي. وقرّرت -من تفكيرٍ وتخطيطٍ كثير- أن أستغلَّ هذا الفترة الطويلة برؤية شيء جديد مختلفٍ عما رأيته في أوروبا سابقاً: فبدلاً من الذهاب إلى مدينة أخرى، بإمكاني أن أزور مكاناً طبيعياً خلاباً يعكسُ جمال أوروبا الذي رأيته في الكتب والأفلام الوثائقية منذ طفولتي، ووجدتُ مكاناً مثالياً لتحقيق هذا الهدف اسمه غابات “سويسرا السكسونية”، وهي محمية طبيعية كبيرة تقعُ ضمن الحدود بين ألمانيا وجمهورية تشيكيا، على مسافة 250 كيلومتراً جنوب العاصمة برلين.

لم أجد أحداً من أصدقائي القادمين إلى المؤتمر (وأنا أعرفُ معظمهم منذ سنوات، بحكم عملنا التطوعي المشترك في ويكيبيديا) يستطيع مرافقتي في هذه الرحلة، إذ إن معظمهم موظّفون يصعبُ عليهم أخذ إجازات طويلة من العمل، وأما من كانوا ينوون البقاء في ألمانيا للسياحة -بعد المؤتمر- فقد كانت لديهم حجوزات مدفوعة سلفاً للطيران والإقامة في مدنٍ أخرى، وذلك لأني لم أسألهم حتى وقتٍ متأخر جداً.

وقد كان من المقلق لي قليلاً، في البدء، أن أذهب في رحلة إلى الغابات والبراري ببلدٍ غريبٍ دون رفقة، ولكني شعرتُ -من جهة أخرى- بالحماس الشديد لإحساس التجول منفرداً في البراري واستكشافها كما يحلو لي. وأمّا بعد أن اكتسبتُ نصيبي من الخبرة والتجربة في الحياة (وقد مضى الآن أسبوع على تلك الجولة)، فأظنّ أني لا أبالغ إذا قلتُ أن بعضاً من القلق لا يضير أبداً.

مدينة باد شانداو

قضيتُ صباحاً واحداً في برلين بعد انتهاء المؤتمر، ذهبتُ خلاله إلى حديقة الحيوانات المشهورة في المدينة التي تستقبلُ الزوار منذ 175 سنة، فهي تعتبرُ واحدةً من أقدم حدائق الحيوان وأكثرها تنوّعاً في العالم. كان المكان لطيفاً جداً بالنسبة لشخصٍ -مثلي- مهووسٍ بالحيوانات والكائنات البرية، إلا أن حجمَ الحديقة كان أقلّ بكثير مما توقعت، إذ أمكنني أن أراها كلّها بأقل من ثلاث ساعات (كنتُ قد أمضيت أكثر من ست ساعات، قبل عامين، في حديقة حيوانات تورنتو دون أن أراها كاملة). وبعد انتهاء جولتي، حزمتُ حقائبي وتوجهتُ إلى محطة الحافلات قاصداً مدينة درسدن، في شرق ألمانيا، وهي أقربُ مدينة كبيرة إلى الغابات والبراري التي كنتُ في طريقي إليها.

نمتُ تلك الليلة في “نُزُلٍ للشباب” (Hostel) بمدينة درسدن، التي وصلتُ إليها من برلين برحلة ساعتين في الحافلة، ولكني لم أستطِع رؤية شيء من هذه المدينة -رغم جمالها الرائع- لأني كنتُ مضطراً للتوجّه منها إلى الغابات منذ الصباح الباكر. غادرتُ محطة القطارات الرئيسية في درسدن في الساعة التاسعة صباح اليوم الآتي*، وركبتُ من هناك في مقصورة ذكرتني بفيلم هاري بوتر، ليس لسببٍ سوى أنها أول مقصورة قطارٍ منفردة ركبتُها في حياتي. توقف قطاري بعد عشرين دقيقة في بلدة باد شانداو، وهي مدينة صغيرة تقعُ على ضفاف نهر الإلب (على مسافة قليلة جداً من الحدود التشيكية) ويسكنها 3,600 شخص فقط.

كانت منصّة القطار مهجورة تماماً. لم ينزل معي إليها إلا شخصان أو ثلاثة، وقد اختفوا -بطريقة ما- في العدم بينما كنتُ لا أزال أنظرُ حولي وأفكّر بخطوتي الآتية، وبذا وجدتُ نفسي وحيداً بجانب السكة، وأمامي نهر كبير، ووراء ذلك النهر تقعُ البلدة التي أريد الذهاب إليها. رأيتُ جسراً بعيداً يمكنني العبور منه إلى الجانب الآخر من النهر، إلا أنني قدرتُ الوقت اللازم للوصول إليه (والسير منه إلى وسط البلدة) بما لا يقلّ عن ثلاثين دقيقة. وبعد التمعّن من حولي أكثر قليلاً، لاحظتُ أن ثمة بجانبي بناءًَ بحجم سبعة منازل متلاصقة كُتِبَ عليه “محطة قطارات باد شانداو”، وفكرتُ بأنه قد يكون مكاناً غير سيّئ -بالنسبة لشخصٍ سريع البديهة- للتوجّه إليه الآن.

لا أدري لو كان في المحطة كلها آنذاك، وفيها ما لا يقلّ عن خمسة عشر أو عشرين غرفة، أي موظّفة أو موظّفة سوى المرشدة المسؤولة عن مساعدة السياح، وهي سيدة في الأربعينيات لا تتحدث الإنكليزية جيداً، ولذا واجهت مصاعب جمّة لتخبرني أن ثمّة عبَّارة قادمة بعد عشرين دقيقة بإمكانها أن تحملني إلى الجانب الآخر من النهر، وأني (إذا لم أرغب بانتظارها) فبإمكاني أن أطلق الريح لساقيَّ وأذهب إلى الجانب الآخر سيراً على الأقدام، رغم أن ذلك -في رأيها- سيأخذُ وقتاً أطول بقليل.

أخذتُ بنصيحتها وتوجَّهتُ إلى ضفة النهر لأنتظر العبَّارة في طقس شديد البرودة، بالنسبة لمخلوقٍ ترعرع في الصحراء، إذ لم تتعدّى الحرارة ثلاث أو أربع درجات مئوية، إلا أنَّ مشهد النهر الخلاّب -في الصباح- كان يستحقّ قليلاً من العناء. شاهدتُ هذا المشهد الجميل وأنا أتناول قطعةً من فتاتِ الكعك المسحوق بنكهة الفراولة، والتي جلست في حقيبة ظهري (تحت كتبي وملابسي وأغراضي) خلال الأيام الخمسة أو الستة الماضية، إلا أن مذاقها -لحسن الحظ- لم يتغير كثيراً أثناء التجارب العصيبة التي مرَّت بها.

وصلت العبَّارة المنتظرة في تمام الساعة العاشرة صباحاً لتنقذني من عذابي، وأقلَّتني خلال ثلاث دقائق إلى الضفة الأخرى، ثم تركتني هناك لأنظر ببلاهة إلى مجموعة من المنازل الريفية المتراصفة بجانب النهر وأنا أتساءل عمَّا عليَّ فعله. بدأتُ بالسير بين أزقّة البلدة، وبعد دقيقتين دخلتُ “ساحتها” الرئيسية، التي قد تصلحُ لتكون موقفاً للسيارات لبقّالة صغيرة، ولكنَّ فيها مكتباً حكومياً ممتازاً -ومجانياً- لإرشاد السياح، وهو اكتشافٌ جاء بتوقيتٍ ممتاز لي.

“أظنّ أن هذه الرحلة ستأخذ منك.. دعني أفكر”، قالت المرشدة السياحية لي، بعد أن فسّرت الطريق إلى وجهتي بكلّ دقة، “حوالي ثلاثين دقيقة -على ما أعتقد- وتكونُ هناك”، وأشارت إلى مكان المرتفعات الجبلية (التي أقصدُها) على الخريطة، “لا تزيد المسافة عن كيلومترين أو ثلاث كيلومترات، ولذا ستكون رحلة سهلة على السَّاقين”.

وبحُكْم سذاجتي ونقص خبرتي، صدَّقتُ -بطبيعة الحال- التقديرات الجميلة التي سمعتُها بكلّ طيبة قلب، وتوجَّهتُ إلى متجر لأشتري نصيباً من المؤن، أي العصير والسندويشات الجاهزة، لأحافظَ بها على طاقتي أثناء مغامرتي القادمة بين الغابات، والتي لن يأخذ الخوضُ فيها أكثر من ثلاثين دقيقة ذهاباً ومثلها إياباً.

المصعد

حملتُ بين يديّ، أثناء سيري في الطريق الرئيسي لبلدة باد شانداو، خريطة ملوَّنة رائعة للمنطقة تبرَّع لي بها المكتب السياحي، ومضيتُ قدماً في طريقي وأنا أتأمل هذه الخريطة حيناً والمشاهد التي أمامي حيناً لأرى تقدّمي البطيء بين تقاطيعها. وخلال دقائق باتت معظم منازل المدينة ورائي، وصرتُ أسيرُ وحيداً على طريق مُعبَّد بجانب النهر تكتظُّ جوانبه بلافتاتٍ تخبرني بالمسافة التي تفصلني عن المدن القادمة، وبالمدّة التقديرية التي أحتاجها للوصول إلى هناك (وأظنّها كانت تقديرات مماثلةً في تفائلها للخدع التي تضلّل بها مرشدة المكتب السياحي المسافرين الأغرار والمساكين).

في هذا الموقف، ومع حقيبة الظهر التي كنتُ أحملُها خلفي ومؤن السفر التي أعددتُها لمغامرتي، راودني إحساسٌ قويّ بأني أحد المسافرين في الأرض الوسطى من قصة “ملك الخواتم” (Lord of the Rings)، وهو إحساسٌ مدعومٌ بسببين قويَّيْن: أولاً، بسبب مظهري الذي أسمعُ مراراً أنه يشبهُ فرودو باغينز، وثانياً، بسبب الدرجات الخمسة آلاف التي كنتُ على وشك صعودها إلى أعالي الجبال، والتي -قد يُقَال- أنها ليس شديدة الاختلاف عن أدراج موردور في القصّة.

لاحظتُ بعد أمتارٍ من اجتياز “البلدة” أن أمامي برجاً مرتفعاً يشبهُ شكله المصعد، ينتصب صاعداً من بين بعض المنازل نحو قمة هضبة تغطّيها الغابات تقعُ وراء المدينة. أكَّد لي الموظَّف -باللغة الألمانية- أن هذا مصعدٌ بإمكانه أن يقلّني إلى أعالي الجبال، بدلاً من إرهاق نفسي بالصعود إليها بساقيّ المسكينتين، كما أكَّد لي أن عليَّ دفع أجرٍ مقداره 1.75 يورو للاستفادة من هذه الخدمة الجميلة. وقد وافقتهُ في أن هذا شرطٌ معقول، وبعد عشر ثوانٍ من هذا الاتفاق اجتزتُ المرحلة الأولى من رحلتي، إذ صعدتُ إلى مطلّ يرتفعُ خمسين متراً فوق المدينة التي انطلقتُ منها: وبذلك كنتُ في منتصف الطريق نحو وجهتي التالية، وهي قرية أوستراو.

أوستراو

حملني المصعد -غير المجانيّ- أول خمسين مترٍ للأعلى، ولكني كنتُ بحاجة لصعود 80 متراً أخرى بنفسي لوصول قرية أوستراو. ولم أجد في هذه القرية أي أمرٍ مثير أو غير مثير للاهتمام، فهي ليست سوى كومة من المنازل المعدودة المترامية بين الجبال، ومن الواضح أن ليس فيها عدداً كبيراً (ولا قليلاً، ربّما) من المتاجر أو الأسواق أو المطاعم أو أي مكانٍ آخر يخدمُ حاضرة الإنسان. ولكن المشهد الذي وراءها كان مهيباً: فقد كانت منازل القرية محاطةً بمزارع وأريافٍ منبسطة، وانتصبت وراءها الجبال والغابات المذهلة التي كنتُ بصدد الذهاب إليها، والتي ملئتني بالحماس للمرحلة القادمة من الرحلة.

سرعان ما قابلتُ معضلة جديدة في هذه الأرياف، حول قرية أوستراو، وهي كثرة مفترقات الطرق فيها. قضيتُ خمس دقائق أتأمّل خريطتي الملوّنة الجميلة بجانب مفترق الطرق الأول، حتى تبيَّن لي أن عليَّ الذهاب -بدون شك- يميناً، أي باتجاه الجنوب الشرقي.

شاهدتُ بعد مائتي مترٍ لافتة بجوار الطريق كُتِبَ عليها Kluftelweg، ولم يساورني أدنى شك -عند النظر إلى خريطتي- أن هذا طريق صحيحٌ تماماً، ولذلك باشرتُ السير فيه بكلّ بهجة وسعادة. ولكني لاحظتُ بعد نصف كيلومتر أن الطريق بدأ ينحرفُ نحو الجنوب بطريقةٍ غريبة تأخذني بعيداً عن المرتفعات (التي كانت ضمن مرأى بصري الآن)، ولحلّ هذه المعضلة، قرَّرتُ أن أستشير أول شخص أقابلهُ في هذا الطريق الريفي، وهو امرأة عجوز برفقتها مخلوقٌ عملاقٌ ظننتهُ ذئباً في أول الأمر، ثم تبيَّن -لدى اقترابي منه- أنه كلبٌ انفصلَ حديثاً جداً عن أسلافه من سلالة الذئاب.

كانت صاحبة الكلب سيّدة لطيفة في عمرٍ بين الثمانين والسبعين، ولم يمنعني سنّها من محاولة الحديث إليها -عبثاً- بالإنكليزية، وعندما لم يجدِ ذلك اضطررتُ لأن أظهرَ لها مهارتي غير المبهرة باللغة الألمانية. ظلَّت تلك العجوز تتحدث إليَّ لما لا يقلّ عن خمس دقائق، وعليَّ القول أن الحوار الذي دار بيننا كان من طرفٍ واحدٍ في معظم الوقت، ولم تتخلَّلهُ -من جهتي- سوى إيماءات نادرة مع كلمات “Ja” و”Super”.

لن أزعمَ أني فهمتُ جميع دقائق وتفاصيل الخطاب البهيج الذي ألقتهُ عليّ المرأة العجوز، ولكني استنتجتُ منه (أو أظنّ أني استنتجت) أنني أسيرُ في طريق خاطئ، ولا بُدَّ لي أن أعود كيلومتراً إلى الوراء وآخذ الجهة اليسرى عند مفترق الطرق. وأما الجانب الأكثر إثارة من كلامها فقد كان شيئاً عن السياح الأغبياء، الذاهبين إلى المرتفعات، الذي تقابلهم هذه العجوز دوماً في نفس المكان الذي نقفُ فيه، والذين يعودون إلى هذا المكان نفسه -بطريقةٍ ما- بعد أن يسيروا في دوائر ودوائر مرَّة تلو الأخرى. وقد أشارت وهي تشرحُ هذا الجزء إلى بوابة في سياجٍ قريب منا، تبدو وكأنها تؤدّي إلى الغابات، وشكرتُها بحرارةٍ على هذا التحذير الممتاز وعلى المعلومات المثرية الأخرى، ثم عدتُ إلى مفترق الطرق وأنا مصابٌ بشيء من التعب، وأخذتُ الجهة الصحيحة. وخلال دقائق كنتُ أنزل أدراجاً تلو أدراجٍ نحو الغابات.

الغابة

مثل أيّ جبل آخر، يمرّ الطريق المؤدّي إلى مرتفعات “شرامشتاين” وسط وادٍ سحيق. ولا أدري كم متراً نزلتُ في هذا الوادي، ولكني لا شكّ بأنها أكثر من الأمتار التي دفعتُ المال لأصعدها في بلدة باد شانداو. إلا أنّني لم أكُن أسير بين طرقٍ مُعبَّدة الآن، بل كنتُ أنزل درجاتٍ محفورةً في تربة غابة نفضيَّة أوروبية تملؤها الطحالب والأوراق الجافّة والكثير من المظاهر الأخرى التي كنتُ أحلمُ برؤيتها منذ أن بدأتُ بمشاهدة قناة ناشيونال جيوغرافيك العربيَّة، قبل أحد عشر أو اثني عشر عاماً.

وصلتُ، بعد فترة من النزول في الوادي، إلى مفترق طرقٍ جديد، ووجدتُ عنده منزلاً وحيداً في وسط الغابة محاطاً بسياج، ووراءه رجل مسنّ مشغول بتحطيب الأشجار وبناء بعضِ الأشياء. كانت بجانب المنزل منجرة خاوية فيها طاولة وكراسٍ يبدو أن الرجل قد صنعها بنفسه. كنتُ مرهقاً جداً من السير المتواصل، فألقيتُ التحية على الرجل، بالألمانية، واستأذنته لأجلس لتناول طعامي في منجرته. وفي ذلك المكان، ولولا علب الطعام البلاستيكية التي معي، لم يكُن من الصعب أبداً أن أشعرَ وكأنّي مسافرٌ في البراري بالقرون الوسطى، قرَّر التوقف في منزل أحد الغرباء لأخذ استراحة.

عدتُ للسَّير قدماً بحماسٍ بعد مغادرة هذا المكان الغريب، وسرعان ما بدأ الطريق بالصعود إلى الأعلى نحو المرتفعات، وملئتني السعادة والشّوق لرؤية المرتفعات الشاهقة التي كنتُ أقصدها. ومضت عشرُ دقائق على هذه الحال، ثُمَّ توقف الطريق عن الصعود، ووجدتُ نفسي أمام سهلٍ منبسط مليئ بالمزارع والحقول، وحولي سياجٌ فيه بوابة إلى الغابة، ولم أرَ هناك المرأة العجوز وكلبها المفصوم عن سلالة الذئاب، إلا أنّي تخيَّلتُ شبحها أمامي وهي تشيرُ بيديها -مرة تلو الأخرى- نحو السياج وتخبرني عن الأغبياء الذين يدورون هنا في دوائر، ويعودون إلى المكان نفسه مراراً وتكراراً.

دليل سياحي

أضعتُ أكثر من عشرين دقيقة في العودة إلى مكاني واستكمال الدائرة التي تحدَّثت عنها العجوز الألمانية. رأيتُ أمامي -مرة أخرى- المنزل الذي بين الغابات ومفترق الطرق عنده، وتملّكني الفزعُ من أن أبدأ بالسَّير في دائرة مفرغة جديدة، فقرَّرتُ أن أجد شخصاً يساعدني. ولاحظتُ وقتها امرأة متوسطة العمر جالسة بجوار المنزل، وبدا عليها وكأنَّها من سكان المنطقة.

بدأتُ بالحديث بالألمانية، مثلما اعتدتُ في هذه المنطقة النائية، ولكن موهبتي في هذه اللغة لم تنَل رضا زميلتي الجديدة، فعرضت عليَّ التحدث بالإنكليزية بدلاً منها. “أنا في طريقي إلى مرتفعات شرامشتاين، أيضاً”، قالت لي عندما أخبرتها أني ضللتُ طريقي، “أذهبُ إليها دوماً في يوم عطلتي. ما رأيك بأن نتابع الطريق سوية؟”. ومنذ الآن فصاعداً، أصبح لديَّ دليل سياحي مجانيّ (لبعض الوقت على الأقل) ليحميني من أن أضلّ طريقي مجدداً.

أخذنا الاتجاه الأيسر لدى مفترق الطرق، مجدداً، وبعدها بقليلٍ وصلنا إلى سفح جبلٍ تملؤه الأدراج والسلالم صعوداً، وأول ما فعلتهُ مرشدتي السياحية عند وصولنا إلى هناك هو أنها أوقفتني لمدة أربع دقائق أمام لوحة للتعليمات لتعطيني شرحاً مطولاً عنها. رُسِمَت على تلك اللوحة طرق كثيرة متشابكة مخصّصة للسير في الغابات، ولكلّ منها لون ورمزٌ يميّزه عن الآخر. تحدَّثت مرشدتي مطولاً عن هذه الطرق وعن ألوانها وعن المعاني التي تشيرُ إليها، ومتى عليَّ أن آخذ -أو لا آخذ- كلّ طريق منها، ولكني كنتُ مرهقاً جداً كي أستطيع الإنصات لأيّ كلمة تقولها. وقد كنتُ على وشك أن أدفع ثمناً باهظاً لقاء كلّ كلمة لم أستمع إليها.