لا يجب أن نملّ المنشورات التي تتحدَّث عن اللجوء إلى كهف الإنعزال هربًا من الحياة السريعة في مواقع التواصل الاجتماعي. فالقراءة في هذه المواضيع يجب أن تكون من الوِرد اليومي، تذكيرًا لمستخدم الإنترنت أنَّ الحياة على الجانب الآخر أبطأ، أجمل وأهدأ.

حتَّى لو قدَّم كل منشور رؤية من زاوية جديدة فقط، أو أضاف مثالًا جعلك تؤمن بفكرة هجر الشبكات الاجتماعية، بل حتَّى لو قدَّم تعبيرًا أنيقًا جديدًا، كل هذا مُفيد، كل هذا يُذكّرنا بأنَّ حياة السُرعة الرقمية هي حياة لا تُراد. في هذا المقال أُقدِّم سببين إضافيين في هذا الغرض، قد تكون تعرفها بالفعل إن كُنتَ تجرِّب دائمًا أن تنعزل لفترة، لكن إعادة ذكرها ستجعلك أقرب لفعل ذلك مرّة أخرى.

ملل أكثر

أحد المزايا التي تأتي مع التخلّي عن شبكات التواصل الاجتماعي هو وقت أكثر للملل. ملل؟ أليس هذا أمرًا سلبيًا يُفرُّ منه؟!

لا. في عالمنا الرقمي السريع، أصبحَ التشتّت الخيار الافتراضي لوقت العُزلة، عند حلول أي وقت فيه شيء من الانتظار، نتلقّى هواتفنا بهلفة، ولا يُلام أحد في هذا، لقد صُرفت الملايين في زيادة "لهفة الهواتف" من خلال الخوارزميات والمُشهيّات الرقمية!

عندما يتبدَّد الملل من حياتك، ستفقد تلك القدرة على الجلوس وحيدًا والتفكير، التفكير بنفسك وعالمك المحيط، هذا التفكير الذي يجعلك تبوِّب أفكارك وتجاربك، ترتِّب صالحها وطالحها، تمزج ما مررت به في الفترة الأخيرة لشيء ينسجم مع القيم التي تؤمن بها. الملل والعزلة تجعلانك إنسانًا أفضل.

الملل الذي أتحدَّث عنه هو الذي يأتي عندما تشعر بجُرعة خوف من الجلوس وحيدًا مع راسك وأفكارك، ولا أقصد الملل الذي يأتي بعد مشاهدة الحلقة رقم 7 تواليًا من مسلسل على نتفليكس! الملل الأصلي هو الذي سيدفعك للقيام بنشاطات جديدة مفيدة، كما لو شعرتَ بالجوع، ألن تهمَّ بالزاد الذي يسدُّه؟!

القلق أكثر

أنت تُفكِّر بما تنتبه له، وفي العالم الرقمي تنتشر في يوم واحد أخبار قد لا تستطيع قراءتها ولو خصّصت لذلك عُمرك كلّه! الذي تفعله الخوارزميات هو أنّها تُنقِّي لك بعض هذه الأخبار، خصوصًا التي تعرف -عن طريق تاريخ من التجربة- أنّها تهمُّك.

دماغك سيحاول أن يفهم ما يجري حوله، يحاول أن يفهم طبيعة الأخبار وخلفياتها، سيستهلك جزءًا من قدراته المنطقية في ذلك، ثمَّ بعد هذا أتريده يسكت على قصَّة ظلم، أو حدث مستفزّ أو جناية شنيعة؟ سينخرط عاطفيًا في جميع تلك الأحداث.

المحصلة أنّك ستشغِّل عقلك، ستسهلك مواردك المنطقية والعاطفية، وقد لا تمسّك أو عائلتك بشكل مباشر معظم تلك الأحداث أصلَا.

تويتر مثلًا، عالم مخيف، هل تنتبه إلى ثقافة الغضب التي تتصاعد مع الترندات المُقترحة؟ إنّه عالم يختارُ مجرمًا كل يوم، يُحاكمه بأشدّ العقوبات، فيخرج من خلف المجرم جماعة تدافع عنه، فيقتتل الأشياع والأنصار، وتتساقط الجثث والقتلى.

إنّه عالم يحتفي بشخص كل يوم، فيصيّره رمزًا تُرمى دون نعله الورود، ثمَّ يخرج من خلف ذاك البطل جماعة يكرهونه، ويقصّون ماضيه القديم وتصرّفاته الشنعاء، فيقتتل الأشياع والأنصار، ويعلو الغبار الرقمي، وتُسفك الدماء الديجتال!

هل وجدت مستخدمًا دوريًا لتويتر سعيد بما هناك؟

طيّب، سآوي إلى جبل يعصمني، سآوي إلى انستغرام، حيثُ الغواني ينشرن الصور التي تُعجب عينَ الناظر المتوسِّم، وصور حيوات الناس الهادئة تُنشر وتُفلتر.

حسنًا، هذا أيضًا ممّا يزيد القلق، عندما ترى أنَّ حياة فُلان مُنسَّقة وتسير بشكل رومانسي هادئ، ألن تشعر بالقلق على نفسك، إذ تُعاني حتَّى في ضبط أبجديات حياتك؟

لا هنا ولا هناك، فلتبقَ في مكانك، عِش عالمك أنت، عالم الناس الذين تعرفهم، الأصدقاء الذين ينشغلون بالامتحان القادم، أهلك الذين يُجهّزون لعودة أقربائهم من الخارج ليحتفون بهم. إبقَ بينهم، هذا العالم متوقَّع أكثر، أبطأ، وحتمًا أفضل بكثير.