خلق الله عزَّ وجلَّ هذه الخليقة، وأقام السماوات والأرض، وأعدَّ الجنَّة والنَّار، وأنزل كتبه وأرسل رسله، وشرَع أحكامه وأوامره لأجل غايةٍ ساميةٍ وهدفٍ عظيمٍ، ألا وهو تحقيق العبودية له وحده لا شريك له، فلم يخلق الله سبحانه وتعالى كلَّ ما نراه عبثاً، كما أخبرنا بقوله [أفحسبتم أنَّما خلقناكم عبثاً وأنَّكم إلينا لا تُرجعون] (المؤمنون ١١٥).
وقال الله سبحانه وتعالى في بيان تلك الغاية وحصر وظيفة العباد فيها [وما خلقت الجنَّ والإنس إلا ليعبدون] (الذاريات ٥٦)، وإذا علمنا أنَّ غاية الخلق هي تحقيق العبودية، فلا بُدَّ للعبد أن يعرف كيف يحققها، بل يعرف كيف يُحَصِّلُ أعلى مراتبها، ولتحقيق العبودية شرطان لا ينفكان أو ينفصلان، فالأوَّل إفراد الله عزَّ وجلَّ بالتوحيد والعبادة، والثاني البراءة من كلِّ معبودٍ سوى الله، فيقطع العبد كلَّ العلائق من قلبه ويرفع كلَّ العوائق من طريقه ويُثبت تعلقه بالله عزَّ وجلَّ، ولا يمكن لعبدٍ أن يحقق درجةً من العبودية حتى تَنعتقَ نفسه من كلِّ عبودية أخرى، فالنفس لها تعلّقات وتشوّقات وعبوديات تميل إليها، فمن البشر من عَبَدَ بشراً أو شجراً أو حجراً، أو حتى أهواءً وأفكاراً، وكلُّ تلك العبوديات متفرعةٌ من أصلٍ واحدٍ، ألا وهو عبودية الشيطان، وهي التي حذَّر الله عزَّ وجلَّ منها أيَّما تحذير، فقال [ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنَّه لكم عدوٌّ مبين] (يس ٦٠)، فالشيطان لا ينفكُّ عن دعوة الناس إلى شباكه ومصائده لأنَّه يعلم يقيناً أنَّ كلَّ استجابةٍ لدعواهُ هي دخولٌ في عبوديته وانفكاكٌ وبُعدٌ عن عبودية الله عزَّ وجلَّ.
الآن لو تفكّرنا قليلاً سنجد أنَّ هناك علاقةً عكسيةً بين العبودية لله والعبودية للشيطان، فلا بُدَّ للعبد إن أرادَ أن يُحقق العبودية لله أن يُعتِق نفسه من العبودية للشيطان، وفي نظري أنَّ تلك العبودية تكون على درجات ومراتب منها الفروع ومنها الأصول، فكلَّ درجةٍ من العبودية لله تقابلها درجةٌ من العبودية للشيطان، فكلَّما فَرَّط العبد في درجةٍ من درجات العبودية لله لا بُدَّ أن يقابلها صعود درجةٍ في عبودية الشيطان، والعكس صحيح كذلك، فكلَّما زادت درجات العبودية لله كلَّما نقصت درجات العبودية للشيطان.
ولا شكَّ أنَّ الإنسان بطبيعته الجَبِلِّيَّة وفطرته السويَّة يسعى إلى تحصيل الحرية، وهذا أمرٌ متفقٌ عليه عند العقلاء، والحقُّ أنَّ الله عزَّ وجلَّ فطر الخلق على تحصيل حريتهم وكسبها من خلال تحقيق عبوديتهم له سبحانه وتعالى، فإذا حقق العبد عبوديته لله فإنَّه بذلك ينعتق من كلِّ أنواع العبوديات الأخرى، وبذلك فهو يُحقَّق حريَّته من القيود البشرية والآصار الجاهلية والدعوات الشيطانية التي كانت تحكم الناس وتستعبدهم قبل بعثة الأنبياء والرُّسل، فالإنسان مفطور على قبول العبودية للخالق ورفض العبودية للمخلوق، وفي ذلك تتحقق أسمى معاني الحرية المنشودة عند البشر.
هذا المعنى لخَّصته العبارة المشهورة التي نحفظها منذ الصِّغر للصحابي رِبعي بن عامر رضي الله عنه عندما خاطب (رستم) ملك الفُرس قائلاً [إنَّ الله ابتعثنا لنُخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام].
فتأمَّل معي تلك العبارة كيف تختصر علينا كثيراً من الكلام والبيان، وكيف أنَّ تلك العبارة مَثَّلت لنا أنَّ أبلغ مفاهيم الحرية تكمن في تحقيق العبودية لله، فتأمَّل تلك العبارة مرَّةً بعد مرَّة، وأعدِ النظر بها الكرَّة تلو والكرَّة.
وفي الحقيقة مما دعاني لكتابة هذا المقال ما رأيته من كثيرٍ من الدعوات المريضة التي يُطلقها ممن يُسمُّون أنفسهم بالحَدَاثيين والعقلانيين بضرورة التحرر من كثيرٍ من القيود والضوابط، وما تحمله هذه الدعوات من تحريضٍ على هتك الروابط الشرعية والتشكيك في المبادئ الدينية وما فيها من الجُرأة على الله ورسوله، وكلُّ ذلك يتمُّ تحت مسمى الحرية!!
هؤلاء زعموا أنَّ حريتهم تتمثل في الانحلال من العبودية لله والتمرد على أوامره، ولكنهم وقعوا في عبودية الشيطان اتّباعاً لأهوائهم وشهواتهم، وصدق فيهم قول ابن القيم رحمه الله:
هربوا من الرِّقِّ الذي خُلِقوا له * فبُلوا برقَّ النفس والشيطان
فهم لم يدركوا العلاقة العكسية بين العبوديتين، أو أنَّهم أدركوها ثمَّ تجاهلوها رغبةً منهم في تعبيد أنفسهم للشيطان والهوى.
وإنني لست مبالغاً إن وصفت تلك الدعوات التحررية بأنَّها دعوات شيطانية للتمرد على أوامر الله وأحكامه، كيف لا؟ وهي جريمة الشيطان الأكبر عندما تمرَّد على أمر الله له بالسجود لآدم عليه السلام فقال [أأسجد لمن خلقت طيناً] (الإسراء ٦١)، فهو كما تمرَّد وتجرَّأ على عصيان ربِّه وخرج من عبوديته يسعى جاهداً لإضلال أتباعه وسحبهم إلى مستنقعه تحت تبريرات وتخيّلات يضربها في أفهامهم من تقديس العقول والأفكار والتشكيك في الأوامر والأخبار الشرعية وما إلى ذلك، رامياً بذلك إخراجهم من عبودية الله ونوره إلى عبوديته وضلاله وظلامه [والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يُخرجونهم من النور إلى الظلمات] (البقرة ٢٥٧).
إنَّ المسألة عند هؤلاء القوم وبكلِّ بساطة هي تعبيد العقول للأفكار والأهواء والشهوات التي يقذفها الشيطان في صدورهم، فظنُّوا أنَّهم سيجدون ضالتهم المنشودة من دون الله، وسيجدون حريَّة النفس في غير طاعة الله والاستسلام لأمره، ففروا من العبودية لربِّ السماوات والأرض ليجدوا أنفسهم عبيداً وأسرى في ملَّة الشيطان يُغرقهم ويرهقهم في شهواتهم وأهوائهم أخذاً وردَّاً، ولكن رحم الله عبداً عَبَّدَ نفسه لله فانعتق من رِبقة المذلة لغير الله، فهذه طريق العقلاء الذين استقرت عقولهم وقلوبهم على الفطرة حنفاء لله [فأقم وجهك للدِّين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيِّم ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون] (الروم ٣٠).