الهدية بين البرّ والربا: ضوابط شرعية في نور السنة النبوية
مقدمة:
الهدية في الإسلام من أعظم وسائل تأليف القلوب، وبثّ المحبة، وتعزيز الروابط الإنسانية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تهادوا تحابوا". لكن لهذه العبادة الاجتماعية السامية ضوابط شرعية تُميّزها عن الرشوة، وتُبعدها عن مقاصد الدنيا الخفية. فليس كل ما يُعطى يسمى هدية شرعًا، بل قد يتحول إلى باب من أبواب الربا أو الرشوة إذا اقترنت به نية دنيوية أو مصلحة خاصة.
الهدية مقابل الشفاعة: ربا مستتر
من الهدايا التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها: الهدية التي تُقدَّم لمن شفع في قضاء حاجة أو توسّط في أمر من الخير. فهذه الشفاعة ينبغي أن تكون لوجه الله، لا يُطلب عليها أجر ولا يُنتظر منها مكافأة. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من شفع لأخيه بشفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها، فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا" (رواه أبو داود). فالمقابل هنا يُخرج العمل من الإخلاص إلى التكسّب والتجارة، ويُفسد نية الإحسان، فيتحول المعروف إلى ربا مستتر.
متى تُمنع الهدية؟
- إذا كانت مقابل شفاعة أو واسطة، وخصوصًا إذا كانت هذه الواسطة واجبة دينيًا أو أخلاقيًا.
- إذا أُعطيت بعد الشفاعة بنية المكافأة، لا من باب الودّ أو الصداقة.
- إذا كانت للموظف أو المسؤول أو القاضي في صورة تملّق أو تهيئة لقبول معاملة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هدايا العمال غلول".رواه أحمد وصححه الألباني.
حديث "من صنع إليكم معروفًا فكافئوه"
هذا الحديث الشريف لا يُخالف ما سبق، لأنه يُرشد إلى مكافأة المعروف الذي لا يكون شفاعة واجبة أو دينية، بل المعروف العام كالهدية من جار، أو صديق، أو غريب ساعدك في طريق. فهنا يُستحب المكافأة أو الدعاء له، ولا يدخل في باب المنع.
متى تكون الهدية محمودة؟
- تعبيرًا عن المحبة: كهدية لصديق، زوج، جار أو قريب.
- مكافأة على معروف عام: كمن ساعدك في ظرف صعب بدون أن يكون موظفًا مسؤولًا عن ذلك.
- طلبًا للألفة: لتأليف القلوب أو إصلاح ذات البين.
- مجاملة اجتماعية: في المناسبات السعيدة أو المؤلمة كالأعراس أو العزاء.
أمثلة على الهدايا المستحبّة:
- هدية لزميل بمناسبة نجاحه أو زواجه.
- هدية للزوج/الزوجة بدون مناسبة لتقوية المودة.
- هدية لجارك الجديد أو العائد من السفر.
- هدية شكر لشخص أعانك، بلا شفاعة خاصة أو مقابل دنيوي.
متى تُذمّ الهدية؟
- إذا كانت مقابل شفاعة أو واسطة، كما لو أهديت لمن ساعدك في التوظيف أو تسهيل معاملة.
- إذا كانت للقاضي أو الموظف لتسريع الإجراءات أو تقديمك على غيرك.
- إذا كانت من موظف لتاجر أو مسؤول بغرض تملّق أو تحصيل امتياز.
الفرق بين الهدية والرشوة:
الهدية:
- النية: خالصة للمحبة أو الشكر.
- التوقيت: تحدث قبل النفع أو بلا علاقة به.
- الحكم: مستحبة أو جائزة.
الرشوة:
- النية: طمع في مصلحة أو تقديم على غير مستحق.
- التوقيت: غالبا بعد الخدمة أو أثناءها.
- الحكم: محرمة أو من الكبائر.
كما فرَّق العلماء بين الرشوة والهدية: بأن الرشوة ما أُخِذَتْ طلبًا، والهدية ما بُذِلَتْ عفوًا؛ كما قال الإمام الماوردي في "الأحكام السلطانية" (ص: 198، ط. دار الحديث).
قال الإمام ابن حزم الظاهري في "المحلى بالآثار" (8/ 125، ط. دار الفكر): [ووجدنا كلَّ معروفٍ وإن كان يَقَعُ عليه اسمُ صدقةٍ فله اسمٌ آخرُ يخصُّه؛ كالقرْضِ، وَالْهِبَةِ، وَالْهَدِيَّةِ، وَالْإِبَاحَةِ، وَالْحَمَالَةِ، وَالضِّيَافَةِ، وَالْمِنْحَةِ، وسائرِ أَسماءِ وجوه البِرِّ] اهـ.
الخلاصة:
الهدية نور وبركة إذا كانت خالصة لله، وتُعبر عن مودة، لا مصلحة. لكنها تتحول إلى ظلمة ووبال إذا دخلتها النية الفاسدة. فكن ذكيًّا في النية، حكيمًا في العطاء، ولا تفسد معروفك بطمع، ولا إخلاصك بثمن. فما كان لله دام ونما، وما كان لغيره انقطع وانمحى.
______