تهادوا تحابوا"… الهديةُ مفتاح القلوب، وعبادةٌ تُرضي علام الغيوب

مقدمة:

في زحام الحياة، قد لا نملك كثيرًا من الوقت لنقول لمن نحبّهم: نحن نحبّكم… لكن الإسلام، بدقته وسموّه، علّمنا أن هناك طريقًا آخر للتعبير عن المحبة، لا يحتاج إلى كلمات… بل يكفي أن تُهدي، فينبت الحب.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تهادوا تحابوا" رواه البخاري في الأدب المفرد، ومالك، وصححه الألباني.

وهو حديث وجيز في ألفاظه، عميق في أثره؛ فالهديّة ليست مجرد قطعة تُقدّم… بل جسرٌ يمتد من القلب إلى القلب، ويُشيع دفئًا بين الأرواح.

الهدية… عبادة؟ نعم!

ما نمنحه من أشياء، مهما صغرت، قد تُصبح طاعةً إذا قصدنا بها وجه الله، وصلاح ذات البين، وإدخال السرور في قلوب إخواننا.

ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم:

"أحبّ الأعمال إلى الله سرورٌ تدخله على مسلم

فكيف إذا كان هذا السرور في عيون طفلٍ، أو في قلب أم، أو في يد فقير، أو على وجه صديقٍ نسي نفسه؟

الهديّة في ميزان النبي

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية - القليل والكثير- ويرغِّب فيها، ويكافئ عليها، وكان لا يردّها، مهما كانت متواضعة.

ولم تكن قيمة الهدية عنده في ثمنها، بل في روحها، ونيّة صاحبها.

وكان يقول:

"لو أُهدي إليَّ كراع لقبلت، ولو دُعيت عليه لأجبت."

والكُراع: قدم الشاة! شيء لا يُؤكل في الغالب، لكنه عند النبي له معنى: المحبة، والعطاء، والتواضع.

قال ابن بطال: "حضٌ منه لأمته على المهاداة، والصلة، والتأليف، والتَحابِ، وإنما أخبر أنه لا يحقر شيئاً مما يُهدى إليه أو يدعى إليه، لئلا يمتنع الباعث من المهاداة لاحتقار المُهدى، وإنما أشار بالكُراع إلى المبالغة في قبول القليل من الهدية " .
كان - صَلَّى الله عليه وسلم - لا يأكل الصدقة وكان يأكل الهدية، لما في الهدية من تآلف القلوب، والدعاء إلى المحبة والألفة، وجائز عليها الثواب، فترتفع المِنَّة، ولا يجوز ذلك في الصدقة.

من بركات الهدية:

1. تزيل الحقد: الهدية تطفئ نار الغيرة والبغضاء، وتجعل الشيطان خاسئًا حزينًا.

2. تقرّب البعيد: من كنتَ تختلف معه، جرّب أن تهديه شيئًا بسيطًا… وسترى.

3. تُعلّم الكرم: وخصوصًا للأبناء، فالهديّة درسٌ عملي في البذل وحُسن المعاملة.

4. تُؤلّف القلوب: وربنا قال: {وألّف بين قلوبهم}… والهديّة من مفاتيح هذا التأليف.

علاقة الهدية بالبركة في المال.

الهدية تُطرح بها البركة في المال، وهذا من سنن الله الخفية في الكون؛ فحين يُعطي الإنسان من ماله لله، أو ليصل به رحمًا، أو ليُدخل به سرورًا على قلب مؤمن، فإن الله يعوّضه بركة لا تُقاس بالعدد فقط، بل في طيب العيش، وحُسن الحال، ورضا النفس، وسعة الرزق.

{ وَمَاۤ ءَاتَیۡتُم مِّن رِّبࣰا لِّیَرۡبُوَا۟ فِیۤ أَمۡوَ ٰ⁠لِ ٱلنَّاسِ فَلَا یَرۡبُوا۟ عِندَ ٱللَّهِۖ وَمَاۤ ءَاتَیۡتُم مِّن زَكَوٰةࣲ تُرِیدُونَ وَجۡهَ ٱللَّهِ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُضۡعِفُونَ } [سُورَةُ الرُّومِ: ٣٩ ]

الحق - سبحانه وتعالى - يعرف أن خَلْقه يفعلون الخير، ويطلبون الأجر عليه، لكن هذا الطلب قد يضيع إذا راءوا في أعمالهم، وقد يكون الأجر على قدر العمل إذا خلا من الرياء، لكن الحق سبحانه يريد أن يرتفع بالصدقة أو بالزكاة إلى مستوى عَالٍ، فيأخذ صاحبها الثمن من يد الله سبحانه مضاعفاً، وطلب الزيادات يكون في النية. فالمؤمن مثلاً يعلم أنه إذا حُيِّيَ بتحية فعليه أنْ يردَّها بخير منها، فقد يأتي فقير ويقدِّم لأحد الأغنياء هدية على قدر استطاعته، وفي نيته أنْ يردَّها الغني بما يناسب غِنَاه، إذن: فهو حين أعطى يطمع في الزيادة، وإن كانت غير مشروطة، ويجوز أنْ يردَّ الغنيُّ على الهدية بأفضل منها، ويجوز ألاَّ يردَّها أصلاً. فقوله تعالى: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً ..} [الروم: 39] أي: الزيادة بأيِّ ألوانها عما تعطي، وهذه الزيادة غير مشروطة في عقد، والزيادة تكون في المال، أو بأيِّ وسيلة أخرى فيها نفع؛ لأنهم قالوا في تعريف الربا: كل قرض جَرَّ نفعاً فهو ربا.حتى أن الإمام أبا حنيفة كان يجلس في ظل جدار لجاره، فلما طلب منه جاره مالاً وأقرضه رآه الجار لا يجلس في ظل الجدار كما كان يجلس، فسأله عن ذلك فقال: كنت أجلس في ظل جدارك وأعلم أنه تفضّل منك، أما الآن فأخاف أنْ أجلس فيه حتى لا تظن أن هذه الجلسة للمال الذي أخذتَه مني. فالمعنى: وما آتيتم من ربا تبغون به الزيادة سواء أكانتْ نفعاً، أو مالاً، أو غير مال، سواء أكانت مشروطة أو غير مشروطة. قالوا: فما حكم الهدايا إنْ رُدَّتْ بأحسن منها؟ وما ذنبي أنا المعطي في ذلك؟ قالوا: لا شيء فيها بشرط ألاَّ تكون في نيتك الزيادة، وألا تكون هديتك مشروطة، إنما تكون تحبباً وتودداً ومعروفاً بين الناس. {فَلاَ يَرْبُو عِندَ ٱللَّهِ ..} [الروم: 39] يربو عندك أنت بالزيادة التي تأخذها ممَّنْ حيَّيْته، أمّا عند الله فلا يربو.

ليست المادّة، بل المشاعر

الهدية لا تُقاس بثمنها، بل بنيّتها.

كلمة طيبة، وردة، كوب قهوة، كتاب، دعاء مكتوب بخط اليد… كلّها هدايا.

المهم: أن تقول لمن تحبّهم: أنا أراك، وأفكّر بك، وأدعو لك.

هدايا منهي عنها:

  1. هدية بعض الأبناء دون البعض، وإيثارهم بشيء من المال دون إخوانهم.
  2. ما يناله الموظفون من هدايا بعضِ المتعاملين معهم.
  3. الهدايا المحرمة كالخمر، أو الهدايا التي يحرم الانتفاع بها.
  4. هدايا من كان ماله حراماً أو عُرف بالظلم.

الرجوع في الهدية:

نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الرجوع في الهدية، فعن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( العائد في هبته كالعائد في قيئه ) رواه البخاري ..

والذي يجوز له أن يرجع في هبته الوالد إذا أهدى لولده شيئاً، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( لا يحل لأحد أن يعطي عطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده ) رواه الترمذ ي .

وأخيرًا…

إذا أردت أن تُرضي الله، فازرع الحب في الأرض،

وإذا أردت أن تفتح قلوب الناس، فابذل شيئًا من قلبك،

فربما هدية بسيطة، يُباركها الله، فتكون سببًا في محبة دائمة، أو هداية غافل، أو تصفية صدور، أو دعوة لا تُردّ.

تهادوا تحابوا… فالحب في الله، أغلى ما نملك.

______

خواطر محمد متولي الشعراوي، الروم٣٩