المشافهة (المجالس العلمية) والتأليف الكتابي: مقارنة بين الوسيلتين
مقدمة
يعد نقل العلم من أعظم القُربات التي يُتقرب بها إلى الله، وقد سلك العلماء في ذلك طريقين رئيسيين: المشافهة (المجالس العلمية)، والتأليف الكتابي. وقد اختلفت آراء العلماء حول أي الوسيلتين أكثر نفعًا وتأثيرًا، فرأى بعضهم أن التصنيف أنفع، لأنه يصل إلى أجيال متعاقبة، بينما رأى آخرون أن المشافهة أكثر تأثيرًا، لأنها تُحيي القلوب وتُسهم في ترسيخ الفهم. في هذا المقال، سنناقش الفرق بين الوسيلتين، ونحدد أيهما أكثر فائدة بحسب سياق المتعلم والزمان والمكان.
أولًا: المشافهة (المجالس العلمية)
المشافهة كانت الوسيلة الأصلية لنقل العلم منذ عهد النبي ﷺ، حيث كان الصحابة يتلقون العلم منه مباشرة، ثم ينقلونه إلى التابعين، وهكذا استمر العلم بالتناقل عبر الأجيال. من أهم مميزات المشافهة:
- التفاعل المباشر: يستطيع الطالب الاستفسار عن أي مسألة غير واضحة، مما يُعزز الفهم ويمنع الوقوع في الأخطاء.
- التأثير العاطفي والروحي: العالم الذي يُلقي درسه بأسلوب مؤثر يترك أثرًا في القلوب، مما يجعل العلم أكثر تعلقًا بالنفس.
- ضبط العلم وتوثيقه: كثير من العلوم تحتاج إلى التلقي المباشر لضبطها، كعلوم الحديث والقراءات والتجويد.
- تكييف العلم مع مستوى الطالب: المعلم يستطيع تبسيط المعلومات وإعادة شرحها بطرق مختلفة، مما يجعل التعلم أكثر كفاءة.
- إحياء روح الطلب والعلم: الجلوس في مجالس العلم يغرس الهيبة والتقدير للعلم والعلماء، ويحفز الطالب على البحث والتوسع.
ثانيًا: التأليف الكتابي
مع انتشار الكتابة، ظهرت مؤلفات العلماء التي حفظت لنا علومًا عظيمة امتدت فائدتها لعصور عديدة. من مميزات التأليف الكتابي:
- الخلود والاستمرارية: الكتب تبقى لمئات السنين، ويستطيع أي شخص في أي زمان الاستفادة منها.
- التوسع في البحث والتحليل: الكتب تتيح للكاتب تقديم بحث موسع، مع إيراد الأدلة والشواهد والمناقشات المفصلة.
- الوصول إلى جمهور أوسع: قد لا يستطيع بعض الناس حضور المجالس العلمية، لكنهم يستطيعون الوصول إلى العلم من خلال الكتب.
- توثيق العلوم: بعض العلوم تحتاج إلى تدوين دقيق، خاصة العلوم الشرعية التي تحتاج إلى الرجوع إليها في الفتوى والقضاء.
- عدم التقيد بزمان أو مكان: الطالب يمكنه القراءة في أي وقت، دون الحاجة إلى حضور مجلس علمي معين.
ثالثًا: أي الوسيلتين أفضل؟
لا يمكن القول إن أحدهما أفضل مطلقًا، بل الأفضلية تعتمد على طبيعة العلم والمتلقي:
- إن كان المتعلم مبتدئًا، فالمشافهة أنفع له، لأنه يحتاج إلى توجيه مباشر وفهم أعمق.
- إن كان العلم يحتاج إلى ضبط دقيق، مثل الحديث والقراءات، فالمشافهة ضرورية.
- إن كان العلم نظريًا بحتًا، مثل الفقه أو الفلسفة، فالتأليف يكون أكثر فائدة.
- في عصرنا الحالي، مع تطور الإنترنت ووسائل التواصل، أصبح الجمع بين الوسيلتين ضروريًا، بحيث تُقام المجالس العلمية مع توفير الكتب والمصادر المكتوبة.
خاتمة
لا يمكن الاستغناء عن المشافهة ولا عن التأليف، فكلاهما يُكمل الآخر. وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله: "من تعلم من الكتب وحدها، ضيّع الأحكام". لذا، فإن الجمع بين الوسيلتين هو الطريق الأمثل لنقل العلم وتحقيق الفائدة المرجوة.
التعليقات