كاتبٌ ولكن…!

كم عانيتُ وما زلتُ أُعاني من مسألة حفظ أسماء الكُتّاب والمؤلفين! كان هذا السؤال يُروادُني دائماً: لماذا ينبغي عليّ حفظُ تلك الأسماء؟ وماذا سأستفيدُ من ترديدها وسرد مؤلفاتهم؟ الشيءُ الوحيدُ الذي يجعلُ اسم المؤلف يرسخُ في ذهني هو انجذابي لشيءٍ مميزٍ فيه، قد تكون حكمةً راقية، أو قصيدةً مؤثرة، أو ربما أسلوبٌ فريدٌ في عرض الأفكار. أما الحفظُ لمجرد الحفظ، فهذا ما كان يُزعجني.

إن قرأتُ كلاماً مميزاً أو عجيباً، يُثيرني الفضول لمعرفة كاتبه، لا لأتتبع اسمه فقط، بل لأغوص في روائع ما كتب، أو لأفهمَ طريقة تفكيره. لكني -ومع الأسف- قد أنسى اسم كاتب تلك الكلمات بعد أيام، إلا أنني -بفضل الله- لا أنسى الأثر الذي تركته في فكري، ولا أنسى الدعاء له بظهر الغيب، فليس نسيان الاسم انقطاعًا للدعاء بالخير، كما أن عدم معرفة الكاتب لا تعني انتحال كلماته ونسبتها للنفس.

ما أريد قوله هو أن للكلمة عمقًا وأثرًا لا يرتبط بزمن، فهي تبقى حية حتى بعد رحيل صاحبها. إن كتبتُ شيئًا فأمنيتي أن يُستفاد منه، أن يصبح معنى يتجسد في حياة الآخرين، لا أن يكون اسمي مترددًا على ألسنة الناس.

كم من حكمةٍ أو بيتٍ شعريٍّ أو قولٍ مأثورٍ حفَر مكانه في وجداني، فكان نورًا في لحظات ضعفي، أو دفعةً في أوقات كسلي، ومع ذلك لا أذكر قائلها! تُرى، هل سيحزن الكاتب لأنني نسيت اسمه؟

نعم ولا.

  • لا، لأن الكاتب الحقيقي لا يهمه أن يُذكر اسمه، بل أن تعيش كلماته، أن تؤثر، أن تبقى.
  • نعم، لأن الكاتب المزيف يهتم بصدى اسمه أكثر من صدى كلماته.

ما بالنا اليوم نركّز على "من كتب؟" أكثر من "ماذا كتب؟"! كيف أصبح الاهتمام بالاسم أسبق من الفكرة؟ لو أن الكتابة كانت لنفع الأمة ونشر القيم الإيجابية، لكان خيرًا لنا من الكتابة لإثبات الذات، أو لإخفاء الجهل، أو لمجاراة الأسماء اللامعة، أو حتى لإثبات أننا لسنا أقل من فلان وفلان!

لا تكتب ليُقال كاتب! لا تكن يوم القيامة بلا حسنات، تخنقك جملة: "كتبت ليقال كاتب، وقد قيل."

وقد جاء في الحديث الشريف: "تعلَّمَ العلمَ ليُقالَ عالمٌ، وقرأَ القرآنَ ليُقالَ قارئٌ، فقد قِيل، ثم أُمِرَ به فسُحِبَ على وجهِه حتى أُلقِيَ في النار." (صحيح مسلم).

هذه الكلمات أرددها لنفسي أولًا قبل أن أقولها لكم، عسى أن تكون تذكيرًا لي ولكم: لا تكتبوا إلا ما يستحق البقاء!

قراري أن أكتب

قررتُ أن أكتب لأنني وجدتُ أن الكلمة أصبحت سلاحًا في هذا العالم الرقمي، تُحمل على الألسنة، تُنقل، تُؤثر، وأحيانًا يُحتج بها، حتى وإن كانت فارغة من المعنى!

قررتُ أن أكتب لأن الكُتّاب كُثُر، لكن أثرهم لم يظهر كما ينبغي. أردتُ أن أكون عنصرًا يسهم -ولو بكلمة- في تطور الفكر والمجتمع. قررتُ أن أكتب لأثبت لنفسي أنني قادرة على العطاء، على البذل، على إحداث فرق، مهما كان بسيطًا.

قررتُ أن أكتب؛ لأني أعشق لغتي، وأؤمن بجمالها، وأرى أن جمالها لا يليق إلا بنقل المعاني الراقية. قررتُ أن أكتب لأني أدركتُ أن الكتابة مسؤولية، وأنني حين أكتب، فأنا أعرض فكري للناس، وكما قال أستاذي يومًا: "المؤلف يعرض عقله على الناس، فليكن جديرًا بذلك."

علّمني أستاذي أن الكلمة مرآةٌ لصاحبها، فلا أكتب إلا ما أؤمن به، ولا أتحدث فيما لا أحسن، وأن "ليتق اللهَ امرؤٌ سائلُه ربُّه عن كلماته!"

وأخيرًا…

تعلمتُ، وما زلتُ أتعلم. وسأظلّ أطلب العلم حتى تنتهي رحلتي في هذه الحياة، لأرتقي، لأتعلم فأُعلِّم، لأطور نفسي وأساعد غيري، لأترك أثرًا طيبًا، لأجمع حسنات أحتاجها يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون.

اللهم لا تجعلنا ممن ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.