كنت إلى عهد قريب أتصور أن العلاقة بين العبد وربه علاقة محبة وصداقة .. بمعنى يمكن أن يعاتب العبد ربه إذا جفاه عتاب الحبيب للحبيب .. ويمكن أن يحاوره حوار الصديق مع الصديق ..

واستمرت علاقتي بربي على هذا النحو وكان بي حفيا ولم أكن بدعائه شقيا ..

ولكن يبدو أن حنانه ودلاله علي قد أنسياني من أنا ومن هو .. كما ينسى الطفل المدلل مرتبة أبويه ومقامهما .. فشاغبت وعاتبت وحاورت وناجيت وتدللت ناسيا مكر الله وبطشه .. ولكني لم أعترض أو أتذمر على مشيئته وحكمته ..

هذا التصور تصور نبيل وحبيب إلى القلب ولكنه ناقص وليس كل الحقيقة .. وتصور ضبابي غير منضبط .. ويخضع للهوى والرغبة والعاطفة لا إلى الحقيقة المطلقة ..

حقيقة العلاقة بين العبد وربه تتمثل في علاقة العبد بمولاه .. والمملوك بمالكه .. والعبد لا يعاتب مولاه والمملوك لا يحاور مالكه ..

وهذه هي الحقيقة .. فإذا ترسخت في وجدانك فاعلم أنك قد وضعت قدمك على العتبة الأولى في سلم العلاقة ..

الله هو الخالق والمالك والإله الحق يفعل ما يشاء ولا يُسأل عما يفعل ..

لم يعترض النبي إبراهيم حين أُمر بذبح ابنه بل أسلما .. إنها علاقة إسلام واستسلام وخضوع مطلق .. وحين أسلم لهذا الابتلاء الصعب ارتقى في سلم العلاقة حتى صار خليل الله ..

لا بد أن نستوعب هذه الحقيقة وإن كانت قاسية أو صادمة لكنها حقيقة ..

أنت عبد وهو رب .. نعم أنت عبد مملوك .. لا يحق لك أن تتطاول وتتدلل وتعاتب وتمارس حقك الديمقراطي مع الرب إذ ليس لك حق ديمقراطي أساسا لأنك عبد مملوك ..

كن مؤدبا مهذبا مطيعا مستسلما خاضعا خائفا طامعا في حضرة مولاك لأنك فقير وهو الغني .. ضعيف وهو القوي .. ماذا عساك تفعل إن اعترضت وتذمرت .. اضرب راسك في الحيطة أو اشرب من البحر ..

هذه هي الحقيقة .. ويجب أن تستوعبها وترفع لها الراية البيضاء ..

لقد فعلها إبليس المدلل قبلك ونسي مقام العبد في حضرة مولاه واعترض فكان ما كان ..

وأولئك الذين قالوا (نحن أبناء الله وأحباؤه) أبناء وفهمناها فليس لله ولد .. لكن ما ذنبهم أنهم وصفوا أنفسهم بأحباء الله حتى يعترض الباري بقوله (بل) ..

إنها علاقة ضبابية غير واضحة وغير منضبطة تلك التي تقوم على الهوى والعاطفة ويكذبها العمل والسلوك ..

والنبي موسى يتوب إلى الله من ذنب اقترفه وهو طلبه رؤياه .. رؤيا الحبيب للحبيب ..

إن العلاقة بين العبد وربه هي علاقة العبد بربه اللفظ نفسه يوضح طبيعتها .. وبهذا فهي واضحة جلية منضبطة لا تخضع لهوى أو رغبة ..

فإذا ما استقر هذا التصور في القلب وتمكن في الشعور واستوعبه العبد ارتقى صعدا في سلم العلاقة دون أن يتجاوزه أو ينساه حتى يصبح حبيبا وخليلا .. "والذين آمنوا أشد حبا لله" حب مقترن بالخشية والجلال والرهبة ..

وهذه المحبة هبة من الله وفضل يمنحها لمن يشاء "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا" وحين تمنح هذه الهبة يمكنك حينئذ أن تناجيه وتناديه بالحبيب والودود بل والصديق ..

.

نحن نتخبط في طبيعة هذه العلاقة ما بين تصور صوفي مغرور لكنه حبيب إلى القلب .. وما بين تصور سلفي جاف لكنه حقيقة ..

والمزج بين التصورين يزيح عنا هذه الضبابية ويجعلنا نطير بجناحين إلى الله لا بجناح واحد نتعثر به كلما حاولنا النهوض ..

عندما تسمع الحديث القدسي (كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها " لا تغتر وتظن أنك وإياه تخرجتما من دفعة واحدة .. لا تنس أنك كائن هش ضعيف في هذا الكوكب الذي يعد هباءة صغيرة تسبح في ملكوت الله ..

وحين تقرأ "وهو القاهر فوق عباده" لا تنس لطفه ورحمته ووده وقربه وحنانه ..

بهذا تستطيع أن تضبط بوصلة علاقتك بربك وتصل بها إليه سبحانه ..

هذه مجرد خاطرة أبثها بعد معاناة .. معاناة من الجفاء بعد القرب والوحشة بعد الأنس .ولعل غيري مثلي يردد قول الشاعر :

.

فمن ليَ بالعين التي كنت مرةً

إلي بها في سالف الدهر تنظرُ

.

رحماك يا رب .