تحدث ألفريد هتشكوك عن ثلاث كوابيس رئيسية في تحفه الثلاثة؛ نفوس معقدة (ناقش فيها الخوف من الأماكن الغريبة)، جنون (ناقش فيها الخوف من الأشخاص الودودين أكثر من اللازم، وفعل في نفوس أيضا)، دوار (ناقش فيها الخوف من المرتفعات)، والأفلام الثلاثة مشهورة بالأسماء: سايكو، كريزي، فيرتيجو.
ولكن هواجس هيتشكوك أكثر من ذلك، الهاجس الأكثر إلحاحا في أعماله هو الخنق، وبشكل أكثر تحديدا وسادية، خنق النساء. مع ذلك، ورغم جرأته، لم يجرؤ على تنفيذ الفكرة العبقرية محور فيلم الحبل في الفيلم المعنون، وهي تفصيلة مغرية فعلا (استبدال الممثل المقتول بممثلة) خاصة وأن المرأة، يصلح تقديمها على أنها أضعف من الرجل، وبالتالي، أسهل في قتلها.
هو يرسخ ارتباط الحبل بالقتل من خلال عملية الخنق في هذا الفيلم. بالإضافة إلى الأفكار الفلسفية حول ما الذي يمنعنا من القتل (اللي تعرف ديته اقتله) والأهم من كل ذلك، فكرة الفيلم الرئيسية، ومحورها: كيفية تنفيذ الجريمة المثالية، والمتمثلة في قتل صديق بدون أي سبب مفهوم (اختفاء دافع الجريمة) بأداة بسيطة للغاية يسهل التخلص منها (اختفاء أداة الجريمة) وإخفاء الجثة في تابوت -مع مخطط للتخلص منها- (اختفاء الجثة) يستخدم كمائدة للطعام والأكل عليها برفقة أسرة وأصدقاء القتيل (اختفاء الشهود). وكل هذا يخلق ظروفا مثالية للتستر على الجريمة والفرار من العقوبة. فللإختباء من الشرطة لا شيء أفضل من أن تقيم في سكن أمام مركز الشرطة. وهكذا تم تطبيق مفهوم (يقتل القتيل ويمشي في جنازته). يبدوا أن هيتشكوك كان سوف يُعجب كثيرا بأمثال المصريين.
وهنا يتجلى الخوف الأساسي السادس؛الخوف من القتل.
الفيلم يطرح قضية قوية وحادة مقتبسة من رائعة ديستوفسكي الجريمة والعقاب يناقشها المخرج على ألسنة شخصياته، وقد تبني القضية بطلي الفيلم، الطيب والشرير.
والقضية هي القتل بصفته حاجة ملحة للإنسان، فلا يوجد سبب كافي يبرر القتل سوى القتل نفسه. أي أن القتل يحل على من يستحقوه. إن الضحايا هم أشخاص بلهاء ضعفاء سمحوا بقتلهم، وبالتالي استحقوا مصيرهم وسلب حياتهم.
والقتلة هم أشخاص أعلى مستوى من المجتمع. أعلى من أن يحاسبون أو يعملوا حساب للثواب والعقاب، للخطأ والصواب. للخير والشرّ. فهي كلها مفاهيم أدنى من أن ينظر إليها.
هي نفس القضية النيتشوية التي انبثقت منها فكرة سلسلة أفلام التطهر، لما تطرح إحدى الشخصيات مقترح عمل إسبوع أو شهر سنوي يباح فيه القتل.
الخوف من القتل تجلى بالفيلم في أربعة مظاهر أساسية
الأول هو النقاش الفلسفي عن فعل القتل بين الخير والشرّ.
الثاني هو التابوت الذي أكل عليه وشرب القاتل وسط صحبته.
الثالث تمثل القتل بإسلوب القتل المفضل لدى هيتشكوك، وهو الخنق. والشواهد على ذلك -فالخنق هو القتل المحبب للمخرج- عديدة في أعماله السينمائية والتلفزيونية نناقشها في مقال آخر. وقد تسمى الفيلم بإسم الحبل في إشارة ذكية لطريقة الخنق المتبعة من قبل الشرير وطريقة العرض المتبعة من قبل هيتشكوك. كأنه يؤكد على علو مكانته فوق الآخرين وهو القائل عن الممثلين أنهم قطيع من البهائم. فالحبل يرمز لعرض اللقطة الواحدة في حبل واحد طويل دون تقطيع.
الرابع، في فكرة الجريمة المثالية، نفس موضوع فيلم غرباء في القطار وفيه واحد من أهم مشاهد القتل / الخنق في تاريخ السينما يتوازى مع مشهد فيلم جنون الشهير، في الواقع، الحديث عن مشاهد الخنق في أفلام هيتشكوك تحديدا ملهم ودفعني لكتابة مقالات ومقالات، الذي تقرأوه الآن أحدها، وقد ضمنه ضمن سلسلة (المنجزات السينمائية للعبقريات الإخراجية) التي تم قبول حوالي ثلاثة مقالات منها، وكان قد فتر اهتمامي بها بعد رفض هذا المقال للنشر، فها أنا أنشره معكم.
وطالما تحدثنا عن الخنق في أفلام هيتشكوك، هذا ينقلنا إلى فيلم آخر شهير جدا له، هو النافذة الخلفية، وفيه هاجس آخر (الخوف من التلصص).
النافذة الخلفية فيلم حول صحفي تكسر قدمه في حادث ويظل حبيس فراشه فيسلي نفسه بالتلصص على نوافذ الجيران عبر كاميرته / منظاره مما يوقع به في مشاكل تتخطى خطورتها كسر القدم.
هيتشكوك مبدع في تصوير الفيلم داخل المكان الواحد، وفي هذا العمل كما في الحبل، لم تخرج الكاميرا أبعد مما قد تصل إليه بالعين المجردة أو بمنظار مقرب خارج الغرفة عبر إطلالة من النافذة.
ومن خلال هذا العمل (وأيضا سايكو) جسد الرغبة العارمة لدى البشر في التلصص على الآخرين وخوفهم من أن يتلصص عليهم أحد. النافذة الخلفية لم تكن إلا محاكاة لشاشة السينما في القاعة المظلمة، التي تشكل نافذة للمشاهدين على أسرار الآخرين خلف الشاشة. تلك الحاجة التي يربطها أرسطو (ومجموعة واسعة من النقاد منهم أحمد خالد توفيق متبعين أرسطو في تفسيره) بالتطهر. نزعة ماسوشية لتعذيب الذات من خلال التطفل / التلصص على عذابات الآخرين. ومن خلال ذلك يتم التطهر من عذاباتنا (آلامنا، أحزاننا، مخاوفنا). هي لذة متغلغة في النفس البشرية جعلت السينما الفن الأكثر جماهيرية في العالم. والشواهد عديدة على حضورها غير السينما؛ بيت الرعب,قطار الموت، حادث على الطريق يتطلع الناس للنظر إليه دون تقديم أي فائدة، وحتى حلبات المصارعة حاليا (وإن كانت خدعة) ولكنها امتداد لتقليد غربي قديم في حلبات المصارعة الإغريقية الدامية حيث تستمر الصراعات فيها حتى الموت. ومن الشواهد أننا نعاني تلك المشكلة حتى في بيوتنا. بل والشواهد على نزعة التلصص أكثر من ذلك وتحتاج إعادة نظر مما نتناوله في مقال آخر. التلصص داء من الجنس، ولأن الجنس إما إنتهاك وما إشباع، فإن التلصص يخدم النصف الأول وهو الإنتهاك.
التلصص هي خلطة سحرية مجربة من قبل هيتشكوك، يشرح الإثارة في شقيها، موضحا الفرق بين التشويق والمفاجأة، الأخيرة يمكن أن تحدث لما يجلس شخصان في مطعم على طاولة وتنفجر قنبلة فجأة. بينما التشويق يحدث حين يسمح المخرج بأن يعرف المشاهد بأن هناك قنبلة موقوتة أسفل الطاولة، لا يعرف بها أبطالنا، ولكن المشاهد يعرف، وهو يدفع ثمن معرفته، ثمن التلصص!.
وفي فيلم (الرجل الذي عرف أكثر من اللازم) يعاقب بطله لأنه عرف أكثر من اللازم، رجل تختطف إبنته لأنه عرف أكثر من اللازم، بينما هو لا يعرف ماذا عرف وكيف عرفه؟ الإثارة التي يقدمها والمستندة على فكرته الأساسية تقدم لنا هذا الخوف النابع عن تلك الفكرة.
في فيلم ريبيكا هناك إمرأة تنتقل إلى قصر عشقيها الذي تزوجته حديثا، والقصر كله تحت تصرفها عدا الغرفة التي ماتت فيها زوجته السابقة. وإسم الزوجة السابقة هو ريبيكا التي تظل حاضرة في القصر رغم غيابها طوال أحداث الفيلم، تخيم على صدر البطلة بظلال الشك والخوف والريبة. هذا فيلم عن الأشباح بدون ظهور أي أشباح فيه، لا ظهور بصري للشبح، فلا يوجد أي طيف شفاف لإمرأة يظهر على طرف العين ثم يختفي عندما تنظر إليه. ولا وجود لأي ظهور بصري لآثار الشبح. فلا الأشياء تظهر وتختفي، ولا هي تتحرك من تلقاء نفسها أو تطير في الهواء.
وريبيكا هذه، عدم ظهورها لا يعني عدم وجودها، فآثار الشبح النفسية لازالت حاضرة، تتجلى في الفكرة، الذكرى، الخوف.
هو الفيلم الوحيد لهيتشكوك والذي يمكن عده فيلم أشباح، والفيلم مستند إلى قصة دافني دو موريه التي اقتبس عنها هيتشكوك فيلم الطيور أيضا، وكان ينوي أن يقتبس قصة ثالثة هي الشياطين لولا أنه لم يسعفه القدر لذلك ومات قبلها. مخرج آخر كبير من نفس المدرسة قدم لنا فيلم الشياطين وفيه مشهد خنق عظيم.
فيلم ريبيكا هو نوع آخر من العقوبة عن التلصص، شيء مثل قصة اللحية الزرقاء والمائة باب.