المقدمة
لم يكن حديثًا عابرًا ذلك الذي استمعت إليه على أحد المنابر الصوتية على الإنترنت، بل كان أشبه بشعلة أضاءت في ذهني سلسلة من الأسئلة والتأملات. كان المتحدث شخصًا غريبًا عني، لكنه متمكن في أسلوبه، يتحدث عن السومريين والبابليين وأساطيرهم. قال بجرأة إن التوراة مبنية على أكاذيب وأساطير مقتبسة من الحضارات القديمة، وإن سيدنا يعقوب وإبراهيم وغيرهم من الأنبياء شخصيات وهمية اخترعها اليهود غيرة من السومريين وحضارتهم العريقة.
لم يكن هدفه، كما زعم، سوى الدفاع عن فلسطين، مدعيًا أن التوراة أسطورة خالية من أي سند تاريخي يثبت أحقيتهم بهذه الأرض وأن علوم الأنثروبولوجيا تنفي كل تلك المزاعم. لكنني شعرت أن كلماته تجاوزت الدفاع عن الحق الفلسطيني. كان يقف على حافة هاوية خطيرة؛ يهدم أركان الأديان جميعها، بما فيها الإسلام، دون أن يدري.
أثارت كلماته حيرتي. هل يمكن أن تكون القصة بأكملها وهمًا؟ هل حقاً لا يوجد أثر يثبت الروايات الدينية؟ وجدت نفسي في مواجهة فكرة مخيفة: ماذا لو كان الهدف من هذه الأطروحات ليس فقط التشكيك في الروايات التوراتية، بل زعزعة الإيمان نفسه؟ كان علي أن أفكر. كنت بحاجة إلى رؤية أعمق، إلى تفسير يُعيد الأمور إلى نصابها.
الفصل الأول: البداية - التوحيد الذي كان
تخيل معي البداية. لم يكن هناك حضارة سومرية أو بابلية، لم تكن هناك أهرامات ولا معابد ولا آثار عظيمة تروي قصص الإنسان. كان هناك إنسان واحد، فطرة نقية على التوحيد. خلق الله آدم وأبناءه على الإيمان بوحدانيته، وعاشوا على هذه الفطرة، قريبين من الله. لكن مع مرور الزمن، بدأ الإنسان يتغير.
كيف حدث هذا؟ ربما كانت البداية في تلك التماثيل الصغيرة التي صنعها البشر لتخليد ذكرى الصالحين. قالوا: “نحفظ ذكراهم”. لكن الذكرى تحولت إلى عبادة، والعبادة أصبحت أصنامًا، والأصنام تحولت إلى آلهة. ومع الوقت، صار البشر يقولون: “هؤلاء شفعاؤنا عند الله”.
كان ذلك زمن نوح عليه السلام. رجلٌ عاش في عصر أول انحراف بشري عن التوحيد. ألف عام تقريبًا دعاهم نوح إلى العودة، لكنهم أصروا على ضلالهم. حينها جاء الطوفان.
الفصل الثاني: الطوفان - المحو والبدء من جديد
كان الطوفان حدثًا هائلًا، لا يشبه أي كارثة مرت على الأرض. الماء اجتاح كل شيء، مدنًا ومزارع، أصنامًا ومعابد، حتى ذاكرة البشر نفسها. اختفى كل شيء، وكأن الأرض عادت كما خُلقت أول مرة.
يمكنك أن تتخيل المشهد. سفينة ضخمة تجدف في بحر لا نهاية له، السماء تمطر، والأرض تُخرج ينابيعها. في داخل السفينة، كانت كل أشكال الحياة مختبئة، تنتظر لحظة النجاة.
ثم انتهى كل شيء. ابتلعت الأرض الماء، وهدأت السماء. خرج نوح ومن معه من السفينة ليبدأوا من جديد. لم يكن هناك حضارة، لا آثار، لا تدوين. فقط حياة بدائية في عالم نظيف، لكنه فارغ.
الفصل الثالث: عودة البشر إلى الضلال
مع مرور الزمن، تكاثر البشر وانتشروا. ومعهم عادت تلك النزعة البشرية إلى التحريف. القصص الحقيقية عن الطوفان وعن الله الواحد أصبحت حكايات يتناقلها الأجداد. بمرور الأجيال، تحولت الحقيقة إلى أسطورة.
في سومر وبابل، ظهرت الحضارات الأولى. بدأ البشر في التدوين، وبدأوا يروون قصصهم. لكن ما كتبه السومريون والبابليون لم يكن الحقيقة، بل انعكاسًا للقصص التي سمعوها مشوهة. في ملحمة جلجامش، الطوفان ليس عقابًا من إله واحد بل نزوة لآلهة متعددة. أوتنابيشتيم لم يكن نبيًا، بل بطل أسطوري.
الفصل الرابع: السبي البابلي والتوراة
ثم جاءت اليهودية، الدين الذي أعاد البشرية إلى التوحيد. ذكّرت التوراة الناس بقصة الطوفان، لكنها لم تسلم من تأثير الزمن. جاء السبي البابلي، وأخذ اليهود إلى قلب الحضارة البابلية. هناك، عاشوا وسط الأساطير البابلية والسومرية، وتأثرت نصوصهم بتلك القصص.
عندما عادت التوراة إلى اليهود بعد السبي، حملت معها الكثير من التأثيرات البابلية. التشابه بين قصة الطوفان في سفر التكوين والأساطير البابلية واضح، من الآلهة المتعددة إلى أبعاد السفينة.
كان هذا، ربما، ما دفع ذلك المتحدث على الإنترنت للقول بأن التوراة مبنية على الأكاذيب. لكنه كان يغفل عن شيء مهم: الحقيقة لا تُقاس بما تركته الحضارات من آثار، بل بما بقي من الحقائق النقية.
الفصل الخامس: الانفراجة - الإسلام يصحح المسار
ثم جاء الإسلام، وأعاد القصة إلى حقيقتها التوحيدية. القرآن يروي الطوفان كحدث يعبر عن عدل الله ورحمته، وليس نزوة للآلهة. جاء القرآن ليقول إن الطوفان لم يكن أسطورة، بل حقيقة، وإن النبي نوح كان رمزًا للصبر والدعوة إلى الله.
الإسلام جاء ليحمي هذه القصة من التحريف، ويضعها في سياقها الصحيح. يقول الله في القرآن:
“إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ” (الحجر: 9).
وهكذا، انتهت دورة التحريف التي بدأت بعد الطوفان. القصة لم تعد قابلة للتغيير، وأصبحت حقيقة مثبتة بكتاب لا يأتيه الباطل.
الخلاصة: فرضية الحقيقة بين الطوفان والأسطورة
إذا حاولنا تحليل قصة الطوفان عبر الروايات المختلفة، يمكننا وضع فرضية توضح تطور الأحداث بشكل منطقي:
- البداية: التوحيد والإيمان الفطري
بدأت البشرية على التوحيد، حيث كان الإيمان بالله والملائكة هو الأصل.
- زمن الانحراف: الشرك وعبادة الأصنام
مع الزمن، بدأ البشر ينحرفون عن التوحيد، وظهر الشرك بوضوح في زمن نوح عليه السلام، مما أدى إلى عقاب الطوفان.
- الطوفان كمحو شامل:
الطوفان كان حدثًا عالميًا محا كل أثر للحضارات السابقة، بما في ذلك التدوين والآثار المادية، وأعاد البشرية إلى الصفر.
- العودة التدريجية للضلال:
بعد الطوفان، عاد البشر لتأويل القصص وتحريفها، فتحولت الحقائق إلى أساطير، وظهرت تعددية الآلهة في الحضارات الأولى مثل السومريين والبابليين.
- ظهور الأديان السماوية لإعادة التوحيد:
جاءت اليهودية لتعيد الناس إلى التوحيد، وذكّرتهم بقصة الطوفان. لكن مع الزمن، تأثرت النصوص اليهودية بالثقافات المحيطة، خاصة في فترة السبي البابلي.
- الإسلام كخاتمة للتصحيح:
جاء الإسلام ليعيد القصة إلى حقيقتها التوحيدية ويثبتها في القرآن الكريم المحفوظ من التحريف، ليكون دليلًا واختبارًا للبشرية.
الخاتمة: البحث عن الحقيقة
ما سمعته من ذلك الرجل أشعل في داخلي تساؤلات كثيرة. ربما كان يدافع عن حق الفلسطينيين في أرضهم، لكنه كان يهدم إيمانًا أوسع. أردت أن أبحث عن حقيقة القصة، لا لأدافع عن شيء، بل لأفهم.
قصة الطوفان ليست مجرد حكاية من الماضي، بل انعكاس لصراع البشرية بين الحقيقة والتحريف. ربما لا نملك كل الإجابات، لكن ما أرجوه هو أن يفتح هذا المقال بابًا للتفكير. ربما أكون على صواب، وربما أكون على خطأ. لكن البحث عن الحقيقة هو ما يجعلنا بشراً.
التعليقات