جرت العادة لدى مؤلف الكتاب «راي برادبيري» الذي عنونت به الموضوع، على أن يكتب ما لا يقل عن ألف كلمة في اليوم، وذلك مذ كان في الثانية عشرة من عمره (رفقاً بنا يا رجل!).

«ليتني أستطيع كتابة 200 كلمة بانتظام كل يوم يا أخي!». ربما هذا لسان حالك، كما هو لسان حال الكثيرين ممن يقدِّمون خدمات الكتابة عبر منصات العمل الحر، أو يطمحون لدخول ميدان الكتابة وترك بصمة واضحة فيه.

بتُّ قاب قوسين من إنهاء الكتاب الذي ترجمه إلى العربية زمرة من المترجمين الفطاحل، الذين جعلوا قراءته رحلة ماتعة لا أريدها أن تنتهي أبداً لشدة جمالية المفردات المستخدمة، دون أن أنسى موهبة الكاتب الأصلي الفذة الذي أبدع في وصف شغفه وتصوير رحلته في عالم الكتابة، لينقل للقارئ حبه العميق وتوقه الشديد لخلق عوالم خيالية بإيعاز من القلم، وليعلمه في ثنايا مؤلَّفه البديع كيف يصل إلى مرحلة متقدمة يبدع خلالها نصوصاً أشبه بسيمفونيات تبقى حاضرة في ذاكرة القراء وقلوبهم.

في الصفحة (170) من الكتاب الشيق، يشاركنا «راي برادبيري» واحداً من أعظم أسرار الكتابة، أحببت أن أنقله لكم دون أن أكتب كلمة زائدة بعده. يقول:

هل ستضع لنفسك بعد قراءة هذا المقال خطة عمل في الكتابة؟ وما هي هذه الخطة؟ مثلاً: أن تكتب ألف أو ألفي كلمة يومياً لمدة عشرين سنة قادمة. في البداية قد تخرج بقصة قصيرة أسبوعياً، واثنتين وخمسين قصة سنوياً لمدة خمس سنوات، وخلال هذه الفترة ستكتب، وتمحو، وتستبعد كثيراً من الكتابات حتى تصل إلى النتيجة المرضية، فأنا على يقين أن الكمَّ ما هو إلا عتبة للكيف. ولكن كيف؟

لو نظرنا إلى اللوحات الفريدة التي بلغت القمة في الجمال والإتقان لفنانين مشاهير مثل مايكل أنجلو، ودافينشي، تنتوريتو لوجدنا أنها حصيلة البلايين من اللوحات التي رسموها، وهذا ما أعني بقولي أن الكم يهيئ للكيف. إن الجراح الماهر لم يصل إلى ما وصل إليه إلا بعد تشريح وفحص الآلاف من الأجساد البشرية والأنسجة والأعضاء، وكل هذا الكم كان استعداداً لمجيء تلك اللحظة الحاسمة (الكيف) حين يكون جسد كائن حي تحت سكينه.

وكذلك العداء، فلكي يتمكن من قطع مئة ياردة عليه أن يقطع عشرة آلاف ميل ركضاً. إذن فالتجارب الكمية تمنحك الخبرة ومن الخبرة تتحقق المهارة. إن جميع الفنون صغيرها وكبيرها ما هي إلا تقليص للجهد المستنزف في سبيل الدقة والاختصار. فالفنان الجيد يصبح خبيراً بما ينبيغ أن يترك، والجراح الماهر يعرف كيف يصل إلى موضع الداء في وقت مختصر ودون مضاعفات، والعداء الخبير يعرف كيف يُصرِّف مخزون الطاقة في جسده حسب المقتضى، ومتى يستخدم عضلة ما دون الأخرى، فهل يا ترى يختلف عنهم الكاتب بشيء؟ لا أظن ذلك.