تسعى الاقتصاديات إلى المحافظة على حرية حركة رؤوس الأموال و كذلك ثبات سعر الصرف كما تسعى إلى المحافظة على استقلالية سياستها النقدية و لكن هل

يستطيع أي اقتصاد حقاً تحقيق هذا الثالوث في نفس الوقت؟ قبل أن نبدأ في سرد أي فرضيات حول هذا الثالوث يتوجب علينا أن نعرف ما هي مكوناته؟

أولاً استقلالية السياسة النقدية:

إن المَعني بالسياسة النقدية هو البنك المركزي و المقصود باستقلالية السياسة النقدية هو أن يُحدد البنك المركزي أسعار الفائدة بمعزل عن أي تأثيرات خارجية حيث يقوم البنك المركزي بتخفيض أسعار الفائدة من أجل دعم الاقتصاد المحلي أو يقوم برفع سعر الفائدة من أجل محاربة التضخم.

ثانياً: حرية حركة رؤوس الأموال:

 ويشير هذا إلى قدرة القائمين في دولة ما على الإستثمار خارج هذه الدولة و العكس أيضاً حيث أن المستثمرين خارج الدولة يكون لهم القدرة على الإستثمار داخلها. أي قدرة المستثمرين على إدخال و إخراج رؤوس الأموال من وإلى البلد.

ثالثاً: ثبات سعر الصرف

حيث يقوم البنك المركزي بتثبيت سعر صرف العملة أمام العملات الأجنبية الأخرى.

وعن إمكانية تحقيق زوايا هذا المثلث في آن واحد فإن هذا سيخلق مشكلة كبيرة.

لنأخذ مثال الدولة (س) و الدولة (ص). الدولة (س) لديها سعر صرف ثابت بين عملتها و عملة الدولة (ص)، سعر الفائدة في الدولة (س) هو 3% و كذلك هو سعر الفائدة في الدولة ( ص) 3%، و تسمح الدولة (س) بحرية حركة رؤوس الأموال. فإذا حدث و قررت الدولة (س) تطبيق سياسة نقدية مستقلة و قامت بتخفيض سعر الفائدة من 3% الى 2% فإن النتيجة الطبيعية لهذا القرار هو أن المضاربين سيقومون بسحب القروض من الدولة (س) ذات سعر الفائدة الأقل و إستثمارها في الدولة (ص) ذات سعر الفائدة الأعلى. و مع زيادة الطلب على القروض ستضطر الدولة (س) لطبع مزيد من العملة مما سيؤدي إلى حدوث تضخم و ستنخفض قيمة العملة و لكي تعالج الدولة (س) هذا الإنخفاض سيلجأ البنك المركزي لبيع المخزون من إحتياطي النقد الأجنبي. وعندما يُستنزف هذا المخزون سيُهدد هذا قيمة العملة المحلية في الدولة (س) و في النهاية سينهار كل شئ.

إذاً فإن الدولة يمكنها أن تختار بين إثنين فقط من زوايا المثلث، أي تختار:

  • سعر صرف ثابت و حرية حركة رؤوس الأموال
  • سعر صرف ثابت و إستقلالية السياسة النقدية
  • إستقلالية السياسة النقدية و حرية حركة رؤوس الأموال

 كيف تتعامل الدول مع الثالوث المستحيل ؟

  • تختار أمريكا حرية سوق رأس المال مع تبني سياسة نقدية مستقلة و بالتالي فليس لها سعر صرف ثابت، أي لا يمكن لأي شخص أن يُبادل دولاراته في البنك المركزي بالذهب أو بعملة أجنبية عند سعر محدد.
  • أما بلدان منطقة اليورو فقد اختارت أن يكون لديها أسواق رأس مالية مفتوحة و ثبات أسعر الصرف لديها، إذاً فهي تخلت عن حرية السياسة النقدية .
  • واختارت الصين أن تضع ضوابط على حركة رؤوس الأموال و فضّلت ثبات أسعار الصرف و استقلالية السياسة النقدية

الأزمة الماليزية و دروس من الماضي:

قبل الأزمة الاقتصادية الآسياوية عام 1997 كان لماليزيا سوق رأس مال حر كما كانت تربط ماليزيا عملتها بالدولار الأمريكي وخلال الأزمة الاقتصادية واجهت ماليزيا مشكلة كبيرة بسبب هروب رؤوس الأموال وكان الرد الفعل لهذه الأزمة هو أنه تم رفع أسعار الفائدة على أمل أن تتوقف رؤوس الأموال عن الهروب خارج البلاد و لكن لم يؤدي هذا القرار إلى نتيجة ملموسة . و نتيجة للثالوث المستحيل وجدت ماليزيا نفسها غير قادرة على الجمع بين حرية حركة رؤوس الأموال وثبات أسعار الصرف وكذلك التحكم في السياسة النقدية. و بالتالي اختارت ماليزيا أن تضع قيوداً على حركة رؤوس الأموال.

 في عام 1999 وبعد أن انتعش الاقتصاد مرة أخرى تم إزالة بعض القيود على حركة رؤوس الأموال و في عام 2001 تم اتخاذ المزيد من الإجراءات من أجل تحرير رؤوس الأموال.

و لكن المشكلة التي تواجهها الدولة التي تقوم بتحرير سوق رأس المال لديها هو الصراع بين حرية السياسة النقدية وثبات أسعار الصرف. فالدولة يجب أن تتبنى إما سياسة نقدية مستقلة أو سعر صرف ثابت مع حرية حركة رؤوس الأموال. والسياسة النقدية من شأنها أن تحافظ على ثبات أسعار الصرف ولكن إذا ما كانت هذه السياسة النقدية مستقلة حيث يقوم البنك المركزي برفع أو تخفيض الفائدة حسبما يرى فإنه بإنخفاض الفوائد تنخفض أسعار الصرف وعند ارتفاع الفائدة يحدث العكس لما في ذلك من فرصة جذابة للمستثمرين الأجانب مما يؤدي إلى زيادة الطلب على العملة وتعزيز أسعار الصرف.

إذاً فالسياسة النقدية من شأنها أن تحافظ على ثبات أسعار الصرف وأي ارتفاع أو انخفاض في أسعار الفائدة أي تبني سياسة نقدية مستقلة سيؤثر على سعر الصرف. وإذا ما حدث وجمعت الدولة بين سوق رأس المال الحر واستقلالية السياسة النقدية و سعر صرف ثابت فإن هذا من شأنه أن يضع حملاً كبيراً جداً على عاتق السياسة المالية من أجل تحقيق الأهداف الاقتصادية المحلية من زيادة عمالة أو أرباح مما سيؤدي إلى حدوث أزمة مالية ونجد أن ماليزيا عانت من تلك المشكلة حتى العام 2005 . و في 21 يوليو عام 2005 ولحل هذه الأزمة أعلن البنك المركزي الماليزي إلغاء ربط الرينغيت (العملة الماليزية) بالدولار الأمريكي لصالح نظام تعويم مدار وبالتالي تخلت ماليزيا عن ثبات سعر الصرف.

والدرس المستفاد من هذه التجربة هو أنه بمجرد أن يتبنى الاقتصاد حرية حركة رؤوس الأموال فإنه لا يمكن أن يقوم بتثبيت سعر الصرف وامتلاك سياسة نقدية مستقلة في نفس الوقت وأي محاولة فعل ذلك ستجبر الدولة على التخلي عن أهدافها.