في كل مرة كنت أطرق فيها أبواب المنازل خلال أيام الإحصاء، كانت تتشكل لدي صورة جديدة عن المجتمع الذي نعيش فيه. لم تكن الصورة تأتي دفعة واحدة كصفحة مكشوفة، بل كانت تتكون كلوحة فسيفساء، تتداخل فيها الألوان والخطوط لتروي قصصًا مختبئة بين الجدران. كنت أشعر أنني لا أقف فقط على عتبات البيوت، بل على عتبات حيوات بأكملها، متشابكة ومعقدة. كل باب كان يحمل خلفه عالماً من التفاصيل، كل إيماءة وكل إجابة كانت بمثابة خيط يشدني نحو نسيج أكبر.

لم تكن مهمتي مجرد جمع بيانات أو أرقام جافة لتُسجَّل في استمارات، بل كانت نافذة تطل على واقع يُحيكه التحدي والصبر وأحيانًا التجاهل. كنت أقف أمام أبوابٍ تُفتح بتردد أو ترحاب، وأقابل وجوهًا تعبّر عن مختلف حالات الإنسان: وجوه مبتسمة، أخرى قلقة، ووجوه محايدة تبدو وكأنها أنهكتها الحياة. وفي كل مرة كنت أبدأ فيها الحديث مع السكان، كنت أدرك أنني أخوض رحلة عميقة في تفاصيلهم اليومية.

تبدو تواريخ الميلاد أو المستويات الدراسية أو حتى عدد أفراد الأسرة أسئلة بسيطة في ظاهرها، لكنها كشفت لي عن طبقات خفية من حياة الناس. كنت أتعامل مع حقائق تتجاوز الأرقام: كأمٍّ لا تتذكر عمر ابنتها، أو أبٍ يعيش يومه دون أن يعلم مستوى ابنه الدراسي، أو عائلة تتحدث على عدد أفرادهم الغير محدد. كل موقف كان يخبرني شيئًا جديدًا عن علاقة الناس بواقعهم، عن اختياراتهم وأولوياتهم، وعن تلك الفجوات التي تصنعها الحياة بين الأفراد داخل نفس الجدران.

عندما كنت أسأل عن تفاصيل بسيطة لكنها أساسية، مثل تاريخ ميلاد أحد الأبناء، كنت أواجه ترددًا غريبًا من الأمهات والآباء. "آه... ما عرفت بالضبط... يمكن في عام التسعين ولا واحد وتسعين؟" كانت الإجابة غالبًا تأتي مترددة، مليئة بالشك. ثم يضطرون للمناداة على الابن نفسه، ليجيب عن معلومات يفترض أنها حُفرت في ذاكرة الوالدين.

في أحد المنازل، جلست مع سيدة في الأربعينيات من عمرها. كان بيتها بسيطًا لكنه مليء بالحيوية، أطفالها يلعبون في الزاوية، وألعابهم المبعثرة تعكس دفء العائلة. حين سألتها عن تاريخ ميلاد طفلها الأصغر، توقفت للحظة ونظرت نحوه مبتسمة، ثم قالت:

"واش نجيب ليك الكناش؟ والله ما حافظاه!"

كان هذا المشهد يتكرر في كل بيت تقريبًا. الأمهات غالبًا ما يبررن ذلك بالانشغال أو كثرة الأطفال، والآباء يكتفون بهز أكتافهم، وكأن الأمر ليس ذا أهمية.

في منزل آخر، قابلت أبًا في منتصف الخمسينيات. كان رجلاً بسيطًا، تبدو عليه آثار العمل الشاق. جلست معه في غرفة صغيرة ذات أثاث متواضع. حين سألته عن المستوى الدراسي لابنته الكبرى، تردد قليلاً ثم قال:

"كتقرا، ولكن ما عرفت في أي عام وصلات."

"هل في الإعدادي أم الثانوي؟"

"يمكن الثانوي، ما متأكدش."

كانت كلماته تحمل في طياتها اعترافًا ضمنيًا بعدم التورط الكامل في تفاصيل حياة أبنائه. سألت نفسي: كيف يمكن للآباء أن يغفلوا عن تفاصيل تبدو جوهرية، كتاريخ ميلاد أولادهم أو مستواهم الدراسي؟

بدأت ألاحظ أن هذا النقص في المعرفة لم يكن دائمًا ناتجًا عن الإهمال، بل عن نمط حياة مشحون بالمشاغل اليومية. كان الكثير من الآباء يعملون لساعات طويلة لتأمين لقمة العيش، بينما تنشغل الأمهات بالاعتناء بالمنزل والأبناء. في خضم كل هذا، تبدو التواريخ والتفاصيل كأنها رفاهية لا وقت لها.

أذكر عندما دخلت إلى بيتٍ صغير على أطراف المدينة. كان الجوّ حارًا في ذلك اليوم، والعرق يتصبب مني بينما أحمل حقيبتي الصغيرة التي تحمل كل ما أحتاجه لإتمام مهامي. فتح لي الباب صبيّ صغير، عيونه تحمل فضولاً طفولياً بريئاً، وقال بصوت عالٍ:

"ماما، مول الإحصاء جاء!"

ظهرت والدته من الداخل وهي تحمل منشفة على كتفها وتمسح يديها، يبدو أنها كانت منشغلة في المطبخ. دعَتني للدخول، وجلستُ على كرسي متواضع بجوار طاولة خشبية قديمة. قدمت لها نفسي وبدأت الحديث.

"اسمحي ليا، ممكن نبداو؟ أولاً، شحال من واحد كيعيش في هذا الدار؟"

"احنا خمسة، أنا وراجلي وثلاثة ديال الوليدات."

سألتها عن أسمائهم وأعمارهم، وتفاجأت بترددها. التفتت إلى ابنتها الكبرى التي كانت تجلس بالقرب، وسألتها:

"شحال عمرك أنت؟"

ردت الفتاة بتردد:

"اويلي أ ماما ما عرفتيش بالضبط، أنا كبيرة على خويا بعامين."

تكرر هذا المشهد في منازل أخرى، حيث يسأل الآباء أبناءهم عن أعمارهم أو مستوياتهم الدراسية كما لو كانوا ضيوفًا وليسوا أفرادًا من الأسرة. أدركت أن الأمر ليس مجرد نقص في المعرفة، بل هو انعكاس لضغوط الحياة اليومية التي تجعل الآباء منشغلين عن أدق التفاصيل التي تشكل حيوات أبنائهم.

في أحد الأيام، وصلت إلى منزل كبير نسبيًا، بدا عليه أثر السنين. فتح لي الباب رجل مسن، وجهه مليء بالتجاعيد التي بدت كخريطة تحكي عن سنوات من الكدّ والعمل. دعاني للجلوس في حديقة صغيرة أمام المنزل. كان الجوّ لطيفًا، والنسيم يمر بخفة بين الأشجار.

بدأت أسئلتي بسلاسة:

"كم شخصًا يعيش هنا معك؟"

ردّ بابتسامة خفيفة:

"أنا والحاجة والأحفاد، وأحياناً ابني وزوجته يزوروننا."

عندما سألته عن أعمار أحفاده ومستوياتهم الدراسية، توقف قليلاً وقال:

"والله ما عرفت. سول مولات الدار، هي اللي عارفة كلشي."

لم أستطع منع نفسي من التفكير في هذه الإجابة. كيف يمكن لشخص يقضي يومه مع أحفاده أن لا يعرف عنهم تفاصيلهم البسيطة؟ شعرت أن الأمر أكبر من مجرد نسيان، بل هو تجسيد لحياة مزدحمة بالأعباء، حيث تصبح المعرفة بهذه الأمور رفاهية.

واحدة من أكثر القصص التي علقت في ذهني كانت مع ذلك الميكانيكي. كان يومًا شاقًا، وقد وصلت إلى بيته في نهاية النهار. طرقت الباب، ففتحه طفل صغير، نادى بحماس:

"ماما، مول الإحصاء!"

طلبت مني والدته أن أنزل إلى المحل السفلي حيث يعمل زوجها. نزلت درجات السلم ووجدت نفسي أمام ورشة صغيرة مزدحمة بأدوات التصليح والسيارات المعطلة. كان الرجل مشغولاً تحت سيارة، يده ملطخة بالزيت. ألقيت التحية، وعرّفت بنفسي رغم أن هويتي كانت واضحة من القبعة المعلقة على رأسي.

وقف وأخذ يمسح يديه بمنديل قديم، وقال لي:

"تفضل، شنو خاصك؟"

بدأت أسئلتي كالمعتاد:

"كم شخص يعيش معك في البيت؟"

فأجاب، وهو يركز على السيارة أمامه:

"أنا ومولات الدار والدراري."

سألته: "وشحال من دري عندك؟"

رد ببرود وعفوية:

"والله ما عرفت. شوف شنو دير: غدا مع العشرة رجع عندي، غا تلقاني موجد ليك الأوراق كملين."

ضحكت من عفويته، ووعدته بالعودة. في اليوم التالي، بدأت يومي عنده. دخلت إلى المحل، وكان يجلس على كرسي خشبي بجوار مكتبه. دعاني للجلوس، ثم قال بابتسامة:

"دابا كنعرف الجواب."

بدأت بتعبئة الاستمارة وسألته عن عدد أطفاله، فقال بثقة:

"عندي تسعة ... وزدت واحد."

دهشت وسألته: "زدت واحد؟ كيفاش؟"

ابتسم بفخر وأجاب:

"تبنيت ولد. راه عندي عشرة دابا."

تأملت كلماته ووجدتها تحمل معاني عميقة. رجل بسيط يعمل ميكانيكيًا، يعيش حياة مليئة بالتحديات، لكنه وجد مكانًا في قلبه وفي منزله لطفل لا ينتمي إليه بالدم. كان ذلك مثالاً حيًا على الإنسانية في أنقى صورها.

ما بين البيوت الصغيرة والغرف المزدحمة، كنت أرى صورة أكبر للمجتمع: حياة مليئة بالضغوط اليومية التي تجعل من التفاصيل الصغيرة شيئًا ثانويًا. الآباء يعملون طوال اليوم لتأمين احتياجات أسرهم، وغالبًا ما يتجاهلون الأسئلة التي قد تبدو للبعض بسيطة لكنها تحمل عمقًا عاطفيًا ومعرفيًا كبيرًا.

تلك التواريخ الغائبة لم تكن مجرد نقص في المعلومات، بل مرآة لحياة تعيشها الأسر بين ضغط الحاضر وضياع التفاصيل. بين الإجابات المرتبكة والقصص العفوية، أدركت أن الإحصاء لم يكن مجرد عمل تقني، بل رحلة عميقة في فهم مجتمع منهك لكنه صامد.

في كل باب طرقته، لم أكن أكتشف فقط الأرقام، بل كنت أكتشف الإنسان: ذلك الكائن الذي يخطئ وينسى، لكنه في النهاية يتشبث بالحياة بحب وبما يستطيع من عطاء. كل لحظة كانت درسًا في فهم أنفسنا كأفراد، وكأجزاء من لوحة فسيفساء كبيرة تحمل في كل زاوية منها لمسة من الإنسانية.