في كل صباح مشمس من شهر شتنبر، كنت أشق طريقي بين الأزقة المتشابكة لأحياء شعبية مترامية الأطراف، حاملاً حقيبتي، الطابليت الذي لا يفارقني، ودفتر الاستدعاءات. كانت الشارة المعلقة حول عنقي، بألوانها المميزة وشعار الإحصاء، تعلن عن هويتي قبل أن أطرق الأبواب.
الأزقة هنا تضج بالحياة، وإن بدت الحياة نفسها متعبة. الأطفال يلعبون بكرة قديمة على جانبي الطريق الترابي، والنساء يجلسن على العتبات يتبادلن الحديث، بينما يتصاعد دخان الشاي المنبعث من أزقة المنازل البسيطة. كان صوت الباعة الجائلين يختلط مع نداء الأطفال وضحكاتهم، ليشكل صورة حية لواقع يومي مليء بالتفاصيل.
كان الناس يستقبلونني بترحيب، أحيانًا بابتسامة ودودة، وأحيانًا بنظرات مليئة بالشكوك. في كل مرة أصل فيها إلى بيت، أجد نفسي أمام باب خشبي بسيط، غالباً ما يكون مطلياً بألوان باهتة، تحمل آثار الزمن. حين أطرق الباب، تُفتح نافذة صغيرة في الأعلى، يظهر منها وجه فضولي، يتفحصني قبل أن يسمح لي بالدخول. أجلس مع أسرة لطرح الأسئلة، كان النقاش يبدأ بطابع رسمي، ثم سرعان ما يتحول إلى حديث عن الدعم الاجتماعي، تلك "الخمسمائة درهم" التي أصبحت محور حياة الكثير من الأسر البسيطة.
داخل أحد هذه المنازل الصغيرة، جلستُ مع أسرة تتكون من أم خمسينية، وطفل صغير يلعب في ركن الغرفة بألعاب مكسورة. كان البيت متواضعاً للغاية، الجدران مدهونة بلون أبيض متقشر، يتخلله أحياناً ملصقات قديمة. الأثاث بسيط، يكاد لا يكفي لتلبية احتياجاتهم، لكنه منظم بعناية واضحة.
"واش كاين شي خبار؟ غادي يشدوها من عندنا؟"
سألتني المرأة بنبرة تجمع بين الفضول والخوف. كانت تشير إلى "الخمسمائة درهم"، ذلك الدعم المالي الذي أصبح شريان حياة للأسر البسيطة.
تحدثت إليها بصوت هادئ ومطمئن:
"اللي كنجمعوه من معلومات راه باش الدولة شحال ديال ناس كينين، وتفهم شنو خاص الناس وشنو خاص يتبدل. ماشي غادي نستغلوه ضدكم."
لكن ملامحها ظلت مشدودة، كأنها تخشى أن الكلمات لن تكون كافية لإزالة مخاوفها. قالت لي:
"راه حنا غير بزز عايشين. الناس كيقولو إلا جاو ولقاو عندك شي حاجة، راه غادي يقطعو الدعم."
تكرر هذا الحوار مرارًا في كل بيت أزوره. كأن "الخمسمائة درهم" أصبحت تعويذة، شيء يشبه خيط الأمان الأخير الذي لا يجرؤ أحد على فقدانه. كان البرنامج الحكومي قد غيّر الكثير من تفاصيل حياتهم، ليس لأنه مبلغ كبير، بل لأنه جاء في وقت كان يكفي فيه القليل لتمنح هؤلاء الناس بارقة أمل.
في أحد الأيام، وصلت إلى حي آخر. الأزقة كانت أضيق وأكثر ازدحاماً. المنازل متراصة بشكل يكاد يمنع أشعة الشمس من التسلل إليها. التقطت أنفاسي قبل أن أطرق باباً جديداً، فتح لي رجل مسنّ تجاوز السبعين، كان يعيش وحيدًا، يعتمر قبعة تقليدية وجلباباً رمادياً مهترئًا قليلاً، يبدو أنه خدمه لسنوات طويلة.
دخلت إلى غرفته الوحيدة التي تشبه كل شيء إلا غرفة. جدرانها مشققة، وسقفها مغطى بألواح بلاستيكية تمنع تسرب المطر في الشتاء. جلسنا على حصيرة قديمة وضعت على الأرض، وأمامه كوب شاي يكاد أن يكون الشيء الوحيد الدافئ في الغرفة.
بعد الإجابة على أسئلتي الرسمية، سألني بحذر:
"ولدي، قولي بصراحة، هاد الإحصاء علاش؟ باش يزيدونا ولا باش ينقصونا؟"
ابتسمت له وقلت:
"الحاج، الإحصاء راه كيعطي صورة للدولة على كيفاش عايشين الناس، شنو محتاجين، وشنو خاص يتبدل. الدعم كيبقى فقرار الحكومة، ولكن دايمًا كاين هدف باش يوصل للناس اللي كيستحقوه."
هز رأسه بتفهم، لكنه لم يبدُ مقتنعًا تمامًا. ربما كان يشك في أن الأرقام قد تخونه، أو أن حالته البسيطة قد تُنسى بين آلاف البيانات.
الحديث عن "الخمسمائة درهم" لم يكن مجرد نقاش عن دعم مالي. بل كان تعبيرًا عن خوف حقيقي من أن تُسلب منهم فرصة صغيرة للاستقرار، وعن فقدان الثقة في منظومات أكبر تُقرر مصائرهم دون إشراكهم. كانت الأسر ترى في أسئلتي نافذة تطل على مستقبل مجهول؛ ربما يطويها تحسن، أو ربما يضيف عبئًا جديدًا إلى حياتهم.
كان بعض الأهالي يتحدثون بحذر وكأنهم يمشون على خيوط رفيعة من القلق. في أحد البيوت، جلست مع أم وابنتها شابة في أواخر العشرينيات، أم لطفلين، وزوجها يعمل عاملًا يوميًا. جلسنا في غرفة متواضعة، أثاثها يشبه باقي المنازل التي زرتها: طاولة خشبية قديمة، وسجادة مهترئة، وتلفاز صغير يعرض برامج الأطفال. كانت تمسك بيدها كوب شاي بينما تهز رضيعها الذي يئن ببكاء خافت.
قالت بلهجة مليئة بالاستفهام:
"شوف أ خُويا، أنا غادي نقول الحقيقة، ما عندي ما نخبي. ولكن، صراحة، هاد الدعم هو اللي كيوقف معانا باش نكملو الشهر. حتى هاد الخمسمية ما كتسد والو، ولكن إيلا مشات، شنو غادي نديرو؟"
كانت كلماتها تختصر معاناة مئات الأسر التي قابلتها. تحدثت لها بلطف عن دور الإحصاء في تحسين التخطيط وتوجيه الموارد، لكنها لم تكن تبحث عن تبريرات نظرية. كانت تسأل عن ضمانة، عن وعد، أن ما تمنحه الحكومة لن يُسحب فجأة.
قالت لي:
"إيلا كانوا باغيين يعاونونا، علاش هاد الزحام ديال الأسئلة؟ واش ما كاينش شي طريقة أسهل؟"
كانت كلماتها تحمل في طياتها إحساسًا بالخذلان. فقد اعتادت هذه الفئة أن ترى في أي خطوة حكومية جديدة احتمالًا لتقليص المكاسب البسيطة التي تحصل عليها.
كانت كلماتها تعكس حال الكثير من الأسر. الدعم لم يكن مجرد مبلغ مالي؛ كان خيط الأمل الوحيد الذي يتمسكون به في وجه ظروف الحياة القاسية.
لم يكن الحديث عن الدعم مجرد نقاش مالي؛ بل كان يعكس صراعًا خفيًا بين الحاجة والكرامة. كنت أرى ذلك في عيون بعض الرجال الذين يتحاشون الحديث عن البرنامج، وكأن قبول المساعدة يُشعرهم بالنقص.
في يوم من الأيام، قابلت رجلًا في الأربعينيات. يعمل حارسًا ليليًا، وقد بدا عليه الإرهاق بعد ليلة طويلة من العمل. جلسنا في غرفة صغيرة بها طاولة خشبية متواضعة. بعد أن انتهينا من الأسئلة الرسمية، قال لي:
"شوف، أُوَلْدِي، الدعم راه ماشي عيب. ولكن حنا كانبغيو نخدمو ونعيشو بعرق كتافنا. إيلا كانت الدولة باغية تعاوننا، تهز علينا شوية ديال الحمل. راه الدعم كيجي ولكن كيضيع فالحاجات اللي المفروض تكون أقل تكلفة."
كان كلامه صادقًا، يحمل بين سطوره إحساسًا بالاستحقاق وليس الاستجداء.
مع كل أسرة كنت أزورُها، كنت ألاحظ أن الإحصاء لم يكن مجرد عملية تقنية، بل كان يشبه مرآة تعكس واقع المجتمع، بآماله وتحدياته. الأسئلة التي أطرحها لم تكن مجرد بيانات جامدة، بل مفاتيح لحياة الناس؛ من يسكنون بيتًا صغيرًا من ثلاث غرف لعائلة من سبعة أفراد، ومن يعانون من البطالة، ومن يحاولون التغلب على تحديات الصحة والتعليم.
لكن في الوقت نفسه، كان هناك إحساس عام بالريبة. كيف يمكنهم الوثوق بأن الأرقام التي يقدمونها لن تُستخدم ضدهم؟ كيف يضمنون أن شفافية الإجابات لن تُترجم إلى قرارات تُضر بمصالحهم؟
من بين ما لمسني خلال جولاتي، كان ذلك الجانب الذي بدا خفيًا لكنه مؤثر جدًا: بعض الناس رأوا في هذه "الخمسمائة درهم" أكثر من مجرد دعم مادي. بالنسبة لهم، كانت ملاذًا، مبررًا للركود، وتبريرًا لغياب المبادرة. في بيت بسيط، جلس أمامي شاب في الثلاثينيات من عمره. كان الوقت صباحًا، لكنه بدا وكأنه قد قضى ليلته في سهر طويل. بينما كنت أطرح أسئلتي، كان يجيب بنبرة لا تخلو من اللامبالاة.
قال لي: "ماخدامش، ولكن الحمد لله عندنا ومخصناش، على الأقل كنسدو شوية الحاجيات ديالنا."
سألته: "وش كتبريكولي ولا كتحاول تخدم ولا كتقلب على شي خدمة؟"
ابتسم وقال: "هاد الخدمة فين هي؟ الحمد لله على هاد الشي اللي كاين."
كانت نبرة كلامه تحمل في طياتها رضا غريب. بدا وكأنه قد وجد في هذا الدعم سندًا يجعله غير مستعجل على تحسين أوضاعه. لم يكن وحده من تبنى هذا الموقف؛ التقيت آخرين يشبهونه، أحيانًا شباب في عمر العمل والإنتاج، وأحيانًا رجال ونساء في مقتبل العمر، ممن قرروا أن "الخمسمائة درهم" تكفي لتأمين احتياجاتهم الأساسية، ولو بشكل مؤقت.
في بيت آخر، تحدثت مع أم لثلاثة أطفال. كان زوجها يعمل بشكل غير منتظم، لكنها بدت وكأنها تعوّل على الدعم كوسيلة لتغطية تكاليف الحياة. قالت لي: "واش غادي نخدم ونخلي ولادي؟ هاد الخمسمية كافية غير باش نمشيو بها شوية شوية."
حاولت أن أشرح لها أن الدعم المالي وسيلة مساعدة وليس غاية، وأن التفكير في مصدر إضافي قد يغير من حياتهم للأفضل. لكنها ردت بعبارة بقيت عالقة في ذهني: "علاش نزيد نخاطر؟ على الأقل هاد الشي مضمون."
لم يكن هذا الموقف سائدًا في كل المنازل التي زرتها، لكنه كان موجودًا، بشكل أو بآخر. "الخمسمائة درهم" التي صُممت لتكون أداة دعم مؤقتة في انتظار تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية، تحولت لدى البعض إلى مأمن وذريعة للاستسلام للركود.
هذه الظاهرة أثارت في داخلي الكثير من التساؤلات: كيف يمكن لدعم مالي صغير أن يؤثر بهذا الشكل على رؤية الناس لحياتهم ومستقبلهم؟ كيف يمكن لمبلغ كهذا أن يتحول من وسيلة مساعدة إلى تبرير للاكتفاء بالموجود وغياب الطموح؟
في المقابل، رأيت عائلات أخرى كانت ترى في الدعم فرصة لتعزيز جهودها. كان هناك من يعمل بجد رغم كل الظروف، ويعتبر "الخمسمائة درهم" مجرد مساعدة إضافية، لا تغنيه عن الكفاح اليومي. تلك الأم التي تعمل خياطة لتعين أطفالها، أو ذلك الأب الذي يبيع الخضروات في السوق ويستيقظ قبل الفجر.
لكن في العمق، يبرز السؤال: هل المشكلة في الناس، أم في طريقة تصميم برامج الدعم التي تفتقر أحيانًا إلى رؤية شمولية تربط الدعم بالتمكين والعمل؟ ربما يكون الحل في خلق توازن بين تقديم الدعم المادي وتحفيز الناس على العمل والبحث عن فرص أفضل، كي لا يصبح الدعم وسيلة لتكريس الركود بدلًا من كسره.
عندما انتهى عملي الميداني، تركتني هذه التجربة بحالة من التأمل. كان الإحصاء درسًا عميقًا في فهم الناس، في التعاطف مع مخاوفهم، وفي رؤية تأثير القرارات الحكومية على حياتهم اليومية.
"خمسمائة درهم" لم تكن مجرد مبلغ بسيط. كانت قصة معقدة، تحمل في طياتها هموم الناس وتطلعاتهم وآمالهم بحياة أفضل.
ربما لم أستطع تقديم إجابات شافية لكل من سألني، لكنني كنت أعلم أن مهمتي لم تكن فقط جمع البيانات، بل كانت أيضًا مشاركة القليل من الأمل والطمأنينة.
التعليقات