يظل العلم دفين الكتب بلا فائدة ما لم نبصر بأعيننا وقلوبنا قدوة تطبقه ويقال فيها كما قال فى المصطفى صلوات ربى وسلامه عليه (كان قرأنا يمشى ) .

وتظل الأجيال تائهة فى البحث عن قدوة حية تقتدى بها؛ فتراهم تارة يقتدون بلاعب كرة وتارة بفنان أو شخصية أظهرها الإعلام بزيف حتى أوهمت الأجيال أن تلك الشخصيات هى ضالتها فضلت وأضلت .

وتظل النفس الأبية الحرة تبحث عن من يثبتها فى الطريق وينفث فى روعها القيم العليا سلوكا دون أن ينطق بكلمة ،فرُوينا أن عمل رجل فى ألف رجل خير من قول ألف رجل لرجل، وهائناذا أصطحبكم معى لنحيا مع قدوة كانت تحيا معنا فى أروقة العلم فى رحاب أزهرنا الشريف حفظه الله من كل سوء ؛ وهل فى مثل هذا الزمان سنجد خير من العلماء نقتدى بهم والله أعلى من قدرهم فقال سبحانه وتعالى (شهد الله أنه لاإله إلا هو والملائكة وألو العلم قائما بالقسط )، وقال نبينا (العلماء ورثة الأنبياء) ، وكان شيخنا عالم أزهرى متبحرا فى علوم شتى كعادة الأزهر فى إعداد علمائه، فلا نعلم أجود منه فى عطائه لأمة الإسلام؛ فترى علمائه يتصدرون فى كل علم ويصدون كل هجمة تأتى من قِبل أعداء الدين ،يبصرون ببصيرة فذة ما لا يبصره العامى، وبقوة حجة يضحضحون تلك الشبهات ويكأنها لم تكن .

وكانت أمنية شيخى محمد بن عبدالمعطى رحمه الله أن يدرس فى أروقة الجامع الأزهر، فحقق الله له أمنيته ورزقنا صحبته ليشرح لنا إحدى كتب علم النحو لما يقرب الشهرين وبما يعادل إحدى عشرة محاضرة ، غرز فينا حب الفصحى ،فكانت أول نصيحة تلقينها منه أن "القراءة مزرعة النحو " فكان رحمة الله عليه لا يدع شاردة فى الكتاب إلا ويجعلنا نلفظها لفظا صحيحا غير مخلين بقواعد النحو والصرف، ولا يمل من أن يصحح لنا لفظ الكلمة وإن تكرر خطأنا لأكثر من مرة ،فكان رحمة الله عليه يتعهدنا بالنطق الصحيح مع مراعاة قواعد النحو التى تعلمنها فجزاه الله عنا خيرا

وسأتحدث بما رئيته بعين وأبصرته بقلبى كان شيخنا رحمة الله عليه ضرير وعلى الرغم من كبر عمره إلا أنه كان أول الحاضرين لمجلس العلم لم أذهب مرة إلا ورئيته يجلس أمام رواق الأتراك ، كان الشيخ يسكن فى طنطا فيركب إحدى القطارات ويكون حاضرا بتمام الساعة الثامنة صباحا لم يتأخر إلا نادرا بسبب تأخر القطار ، ولم يكن يمنعه عن الحضور مرض أو أى شئ وكأنها رسالة عاهد الله أن يبلغها لأجيال أمة نبيه إلى أخر نفس، فأذكر أخر مرة قبل وفاته بيوم كان جالسا معنا مريضا، تأتيه المكالمات للإطمئنان على صحته ، ولم يكن فى الدرس إلا نشيطا مقبلا كعادته على إعطاء المعلومة، صابرا على طلبته ،لم ينه معنا حل التمرينات وكان بسبب بعضنا، ملوا من طول الدرس ومازالت كلمته تتردد فى أذنى نكمل حل التمرينات وليتنا أطعناه، لكن شاء الله أن نتوقف معه عند ذلك الكم، لنذكره كلما هممنا بتطبيق قاعدة ،ولم يذهب عن ذاكرتنا ما حيينا فإن قالوا "من علمنى حرفا صرت له عبدا " فكيف الحال إذا بمن غرز فى قلوبنا حب الفصحى وغاص بنا فى بحرها مطمئنين فرحين بكل لؤلؤة تصادفنا وكأنها ضالتنا لنهتدى بها عن لؤلؤة أخرى ، فهنيئا لنا وجود مثل هؤلاء العلماء، فالحمد لله على نعمة الإسلام ونعمة الأزهر الشريف ، وسأتركم لتتذوق كلام إحدى طالبات الشيخ صديقة وزميلة عزيزة لى ، قالت :

-" هناك من العلماء من يأخذك من هذا الزمان إلى زمان أخر كزمن شيخ العمود ، هذا بخلاف أنك تتلقى المعلومة فأنت مستمتع بالصحبة حتى وإن كان الشيخ صامت تشعر وكأنك فى عبادة ،وعندما ينطق الشيخ فالتقط من ذاك البحر ما شئت فهؤلاء العلماء لا يتكلمون بمعلومة قراؤوها فيعطونها لك، ولكن عندهم علم أذلى ولا أذكى على الله أحد ؛ عندهم ولاية من الله فإن لم تكن الولاية للعلماء فلمن تكون إذا ؟!، فهم يتكلمون بعلم لدنى ، فتأخذ منهم المعلومة ولا تراجع ورائهم ولا تقل لربما أخر لديه رأى غير أرائهم ، يأخذونك إلى عالم أخر ليس بسبب العلم الذى عندهم وحده ولكن هناك قبول منحه الله لهم ، فعلى حسب نية العالم وصدقه يكون قبوله بين الناس ،وأحسب الشيخ محمد بن عبد المعطى كان كذلك وأذكر أن الشيخ فى محاضراته لنا كان يقول : اسألونى وعندما كان بعض الحاضرين يطالبه بأن نسير على منهج الكتاب فكان يرد الشيخ قائلا : سأقول كل شئ، وعدت ربى أن أقول كل علم ، أى علم أعرفه سأقوله لكم ، ونحسبه والله حسيبه أنه كان يبتغى وجه ربه فنسأل الله أن يلقاه ويرفع الله درجته أمين " انتهى

لن يدرك هذا الكلام إلا من جالس العلماء، فمحروم من يأتى إلى الدنيا و لا يؤنس روحه بمجالس العلماء ، فمجالس العلماء هى جنة الله فى أرضه، رحم الله شيخى محمد بن عبد المعطى وجزاه الله عنا وعن أمة الإسلام خير الجزاء ، وبارك الله لنا فى علماء الأزهر وأصلح حال أمة الإسلام وجعلنا خير خلف لخير سلف والحمد لله رب العالمين .

توفى يوم الأثنين

26 محرم سنة 1441 هـ

25سبتمبر سنة 2019 مــ