كنت أظن نفسي مجتهدًا في الدراسة مع أنني لم أكن أدرس! والسبب أن مدرستي كانت تُنجِحُ جميع الطلاب مهما كانوا كسالى ومهملين، إلى أن كانت سنة الثالث الإعدادي (التاسع) حيث كانت صدمة عمري؛ إذ فوجئت بمعدل متدنٍّ لا يؤهلني لمتابعة دراستي في الصف العاشر، عند ذلك شعرت بأنني كائن فارغ من كل محتوى وقيمة، شخص نكرة لا شيء يميزني.

 اضطررت للعمل مرغمًا في أعمال حرة لسنتين، صحيح أن العمل شرف، وأردت من خلاله أن أعبر عن وجودي وأهميتي، ولكني مع ذلك كنت أحتقر نفسي، إذ كان بإمكاني تقديم الأفضل لمستقبلي، لكنني قصرت في الدراسة وكنت مهملًا.

كنت أمضي معظم الليل أسقي الزرع، لدرجة أنني كنت أضطر في إحدى السنوات إلى استخدام بندقية صيد محشوة بطلق ناري عيار صفر مخصص لقتل الوحوش، أحملها على كتفي في أثناء السقاية الليلية تحسبًا لظهور ضبع أو ذئب فجأة، ممسكًا المجراف في كلتا قبضتي، فقد كانت المنطقة نائية جدًا وخالية من السكان، ومحاطة بالصخور من كل الجهات.

لقد أرهقني العمل في الزراعة طوال النهار تحت حر الشمس، ولكنني للأمانة كنت أحيانًا أستظل بجسر على الطريق العام؛ لأبيع الطماطم، مستلقيًا على حصيرة، حيث كنت أرى السيارات الفارهة، وفيها أناس أغنياء يعيشون حياة كريمة، وما غرَّتني تلك المظاهر، بقدر ما كان أوجعني الشعور بالعجز وقلة الحيلة، وكنت أفكر حينها بمعاناتي وإلى متى ستستمر، وفي أعماقي صوتٌ يتردد: ما خُلقتَ لمثل هذا!

في الحقيقة كنت أعاني بصمت، ولا أعبِّر عن مشاعر السخط والاستياء لأحد، إذ كان كبرياء المراهقة يمنعني من الشكوى، ولكن هذا القهر الداخلي الذي لازمني لسنوات المراهقة أنضج تفكيري، وجعلني مسؤولًا عن ضرورة انتشال نفسي من المستنقع الذي كان يحاصرني ويكاد يخنقني.

خلال هاتين السنتين أعجبتني فتاة مرحة مقبلة على الحياة، عصامية تتابع دراستها الثانوية، وتعمل في إجازتها الصيفية معنا تحت حر الشمس الحارقة. كانت الفتاة مشعَّة بالطاقة الإيجابية، مفعمة بالنشاط، تنشر الفرح حيثما تكون، أثَّرت في تفكيري، وشجعتني على العودة مرة أخرى وعدم الاستسلام.

عندها قلت في نفسي، وقد كنت في السادسة عشرة من عمري: إذا كان حظي تعيسًا، لم لا أصنع قدري بنفسي! فمِن عدله تعالى أنه يقدِّر للعباد ما يفكرون به وما يقررونه لأنفسهم، ولا يخيِّب اللهُ عبدًا سعى؛ لذلك قررت التمرد على واقعي ورفضه والسعي نحو تغييره، على مبدأ "كن أو لا تكون".

لقد قررت وبحزم أن أنتشل نفسي من الاستمرار في ذلك العمل الروتيني البسيط، ولم يكن الأمر في البداية طمعًا في تحقيق طموحات كبيرة بقدر ما كان هربًا من واقع مرير أو كما يقال في المثل: كان "هروبًا نحو القمة"، فعرضت على الأهل قراري باستئناف الدراسة، فوافقوا بعدما رأوا إصراري وعزمي على الأمر، ولكنهم كانوا يعتقدون بداية أن محاولتي لم تكن سوى حماس مراهقين لن يمر أكثر من بضعة أيام إلا ويخمد وأعود إلى سابق عهدي في حياتي الرتيبة البائسة.

لا غرابة في أن الأهل لم يبنوا الكثير من الآمال على محاولة ذلك الصبي البسيط الذي لم يكن لديه من المعلومات ما يساعده على اجتياز اختبارات الثانوية العامة بعد انقطاع استمر سنتين، لكنهم كانوا يتأملون متعاطفين إلى أبعد الحدود، وأذكر حينها أنني ذهبت بعد إلحاح من أمي إلى عمي رحمه الله، وكان أستاذ لغة إنجليزية؛ كي يعلمني، فطلب مني القراءة، فقلت له لا أعرف، ثم سألني عن معنى كلمة بسيطة جدًا (student) لم أحر جوابًا، وما زلت أذكر إلى الآن وقد مضى على هذا الموقف أكثر من عشرين عامًا في وجه عمي نظرة الأسى التي وجهها إلى ذلك المراهق الحالم، نظرة كلها شفقة، استشعرتُ فيها ما دار في خلده... لا أمل.

نظرة كانت أبلغ من ألف كلمة، حفرت في أعماق نفسي، وزرعت بذور التحدي والعناد، خرجتُ وقد ازداد تصميمي وحرصي على الاستمرار، وراهنت على الجهد واستغلال كل وقتي لتلك السنة في الدراسة دون الانشغال عنها أبدًا أبدًا، وهذا ما كان.

 لم يتفاجأ من حولي فقط بعزيمتي وعنادي ومكابرتي في الدراسة لساعات طويلة يوميًا بلا كلل أو ملل، بل أنا نفسي عجبت من هذه الطاقة التي ملأتني، وليس من عادتي أن يكون لدي مثل هذه المثابرة والالتزام الشديد، كانت مرحلة تحول جذري. وضعت لنفسي جدولًا، وعاهدت نفسي ألا أحيد عنه، ولن أخذل نفسي هذه المرة، انقطعت للدراسة، وفرَّغت نفسي كليًّا، وقد وعدت أهلي أن أستغني عن جميع تلك السهرات التي كانت مع بعض الأصدقاء، نلهو فيها بلعب الورق، لننفس بها عن ضغوطات العمل النهاري المهين الذي كان يستنزف إنسانيتنا ويستبيحها.

قلت في نفسي هي سنة لن أحسبها من عمري، سأنقطع بها عن كل ما تسول به لي نفسي من مشتتات، وأرهن جميع وقتي للدراسة، أذكر أنني صرت انطوائيًّا نوعًا ما، فانقطعت عن جميع أصدقائي دون استثناء، كما كنت جدِّيًّا بين زملائي في المعهد الذي كان في القرية، إلى درجة أنني كنت مقلًّا على غير عادتي في التباسط بالأحاديث والمزاح، إذ كنت أوجه كل تفكيري واهتمامي، إلى لحظة واحدة فقط هي إعلان النتائج.

هكذا مضت هذه السنة، وللأمانة فقد أثرت في حياتي كلها، وغيرت من طباعي وجعلتني شخصًا أكثر جديةً وتنظيمًا من السابق، وأذكر آخر يوم اختبارات كما لو أنني كنت مسجونًا لسنة، وأفرج عني بعدما قدمت ذلك الاختبار الأخير، ولم أكن نادمًا أبدًا على ما قدمت؛ لأنه لم يتضمن أي تقصير، بذلت قصارى جهدي وقلت في نفسي مهما كانت النتيجة سأرضى بها، إذ أخذت بالأسباب، والتزمت باستثمار كل ساعة خلال العام الدراسي.

أتذكر لحظة إعلان النتائج، كيف هرعت إلى المركز، وانغمست في زحمة الطلاب بحثًا عن القوائم. كان المشهد كأنما المحشر، ولا أنسى ما حييت تلك اللحظة التي وقع فيها نظري على اسمي، أحسست كما لو أن كل الصخب من حولي قد سَكَنَ واختفى، وحضر اسمي وبجواره نتيجة النجاح التي حملقت فيها مطولًا، وقد كنت مغمورًا بسعادة أسكتتني وأسكنتني، لحظتها كنت مغمورًا بالطلاب من كل الجهات عدا تلك الفتحة الصغيرة التي كنت أتأمل فيها النتيجة التي ضمنت لي القبول الجامعي، حيث عثرت على إنسانيتي، كأنما ولدت من جديد.

فالسؤال الآن: ما اللحظة الأجمل في حياتك، التي أشعرتك بسعادة فائقة، غمرتك وما تزال حية في ذاكرتك ووجدانك حتى الآن؟