قصه روائيه للكاتب زين العابدين طالب عواد

في إحدى الأمسيات التي شعرت فيها بالضجر، ارتديت على وجه السرعة أول رداء مهلهل وجدته أمامي ثم حملت كتابي الذي لم أنته منه بعد، و نزلت أهيم على وجهي في الشارع. عند الجهة الموازية، لمحت “كافيه” وأثارتني رائحة قهوة منكهة بالهال قادمة من هناك، فغيرت طريقي باتجاهه. جلست على المقعد الجلدي وانغمست مرة أخرى بقراءة الرواية المأساوية التي كانت بين يديّ، ثم بدأت من شدة تأثري بنوع من البكاء الذي يختنق في الحنجرة، وهو بلا شك المنظر الوحيد الذي لا أحب أن يراني فيه أحد. اقترب مني النادل، يدقق في وجهي و يسألني طلبي. بعد مرور ثوان قليلة، عادَ مرة أخرى. تردد قليلاً كأنه نسي أن يقول شيئاً ما، ثم ما لبث أن وجه لي سؤالاً مباغتاً : هل تعرفين كاتبة تدعى شهد الراوي؟ هذا لأنكِ كثيرة الشبه بها وتحملين كتاباً!. تجمدت في مكاني لأول وهلة ثم أجبت بابتسامة باردة: نعم أعتقد أني أعرفها لكني لا أشبهها!، بدا النادل أكثر فضولاً من ذي قبل وأشد جرأة : بل تشبهينها الى الحد الذي لا تخطأه العين! أنا أحب كتاباتها! فالتمعت في رأسي فكرة مشاكسة، قلت له : أسمع، إن كنتَ تراها كاتبة جيدة فأنا لا أجدها كذلك! وشيئاً فشيئاً بدأت أتحدث عن نفسي وكأني شخصٌ آخر يقف بمواجهة عنيفة مع تجربته بالكتابة. ويشهر كل ما لديه من أسلحة لتهشيم الصورة التي احتفظت بها عن نفسي طوال السنوات الماضية والتي، فجأة، انتبهت الى أنها لم تعد تشير اليّ.

تغضن وجه النادل الذي بدا أنه يحب بالفعل ما يقرأه لي، أو هكذا أراد لملامحه أن تظهر، ثم أعتذر وأنسحب بهدوء. شعرت عندها بحالة غريبة، وكأن ضربة من القدر شطرتني الى نصفين، وتحرر صوت مكبوت من داخلي لم أصغ له في السابق. صوت يرتفع بين الطبقات النفسية بسرعة هائلة مثل هواء محبوس في بالون: هذه أنا الأخرى، الأنا الكاملة التي لا زالت تنتظر تجربة الاصطدام بكل احتمالاتها على دفعاتٍ متفاوتة. الأنا التي تغضب حينَ يتم اختصارها ببعض التجارب والإنجازات الخجولة. هذه الأنا التي تنتمي الى المستقبل. وتغور عميقاً في ذاتها وتعرف جيداً أنها أكثر حضوراً من فترة زمنية تخللتها بعض الاحتفالات. الأنا التي هي أشد عداوة على نفسها من أعداءها حينَ يتعلق الأمر بتحجيم مسافاتها القادمة التي لم تخطو على أرصفتها بعد، لأنها تدرك جيداً أن الأعداء هم في الواقع دفعة القدر الخفية و الوحيدة التي من شأنها أن تورطك بالتقدم الى الأمام.

لقد أيقظني ذلك النادل من غفلة تصالحي مع ما أنا عليه، لقد أيقظ حروبي المؤجله مع ذاتي

الكاتب زين العابدين طالب عواد