فى مشفى ما بهذه المدينة الكبيرة ، و بالتحديد أقرب واحدة للطريق السريع ، يجلس (آندرو) على مقعد قريب من غرفة العمليات ، منحنى للأمام يفكر و يلوم نفسه لما لم يكن منتبها على الطريق ، الان حياة أخته (صوفيا) بخطر بسببه ، كان يجب أن يكون منتبهاً أكثر ، ماذ سيفعل إذا حدث لها شيئاً لا يستطيع التخيل حتى ، ليته هو الذى بين أيدى الأطباء ليس هى ، أخرجه من بحر أفكاره هذه الطبيب الذى خرج من العمليات للتو و وجهه عابس لا يعلم ما يقوله ، ركض عليه (آندرو) أمسكه من كتفيه يترجاه أن يقول أنها بخير ، لكن تأتى الرياح بما لا تشتهيه السفن ، أمسك الطبيب ذراعىّ (آندرو) أنزلهما و ربت على كتفه قائلاً : أنا آسف لم أستطع فعل شيئ لها ، لكن تأكد أنها بمكان أفضل .
لم يصدق (آندرو) ما قاله الطبيب للتو ، أمتلئت زرقاوتيه بالدموع و أتخذت من خديه مجراً لها ، أنهمرت بدون توقف و ظل يحرك رأسه يميناً و يساراً ، كاد أن يقع لولا أمسكه الطبيب ، نظر للطبيب و قال بصوت مجروح بين دموعه : أنت تكذب ...... مستحيل ...... هى بخير .... لم تذهب و تتركنى كأبى و أمى ، أنت تكذب صحيح ؟ ....... س سوف تأتى الأن لآخذها معى ، هى ... وعدتنى أنها لن تتركنى .
ليشفق عليه الطبيب فيقول له و هو مازال بربت عليه : أنا آسف حقاً ، أعلم أنها خسارة كبيرة لك ..... لكن أرجوك تحمل ، ليتركه و يمر على مرضاه .
بعدما رحل الطبيب جلس (آندرو) على المقعد وضع رأسه بين يده قابضاً بهما على شعره الأسود يلوم نفسه قائلاً : أنا السبب بموتها ، أنا السبب ..... آسف أختى سامحينى لتبدأ دموعه بالنزول مجدداً ، ظل صامتاً بمكانه لم يتحرك من وضعيته يفكر كيف سيكمل حياته الأن بدونها ؟ كانت من أعطته الأمل عند موت والديهما من سيعطيه له الأن ؟ ، لم يبق له أحد الأن ماذا سيفعل هنا ؟ هل يذهب لهم ؟ لا يعلم ، كأنه طفل تائه لا يعرف طريقه .
أنتبه لصوت صغير يُحدثه : عندما تمسكه هكذا ألا يزول ؟
ليقطب حاجبيه و يرفع وجهه ناحية الصوت ليجد أن صاحبه فتاة صغيرة بفستان وردى اللون عينيها عسلية واسعها لاحظها من مقعده و شعرها الأسود المضفر ، لينزل رأسه من يده و يبدأ بمسح دوموعه و يقول لها : ما الذى لا يزول ؟
لتتحدث ببراءة : ألم رأسك ، ألا تؤلمك ؟
ليحرك (آندرو) رأسه بالنفى و يقول : لا ، لا يؤلمنى راسى .
لترفع حاجبيها بشكل لطيف لتقول : اين يؤلمك اذا ؟
ليشير على صدره قائلاً بصوت مهزوز : هنا .
فتقترب الفتاة منه لتضع يدها مكان إشارته و تقول : قلبك .
ليومئ لها قائلاً : قلبى .
ترجع الفتاة خطوين للوراء مكانها و تقول : و هذا لا يزول عندما تمسكه هكذا ، تحتاج لأدوية و عمل تحاليل ......
ليقاطعها (آندرو) قائلاً : لا ليس كذلك ، أعنى ........ انا لست مريضا أنى حزين .
لتميل رأسها لليمين قليلاً و تنظر له بعبوس لطيف و تقول : و لما أنت حزين ؟
فينظر للأرض ثم يرفع رأسها للتى أمامه و يطلق تنهيدة فيقول : لقد ذهب الناس الذين أحبهم .
لترجع رأسها لوضعيته الأصلية و تقول و هى تجلس بجانبه : هل هذا كل شيئ ؟
ليجيبها و هو يفسح لها مكان : أليس هذا كافى لأحزن ؟
فتسأله : ألا يعودون ؟
ليجيبها : لا ، لا يعودون ، و هو بداخله يقول أتمنى ذلك حقاً .
لتسأله مرة أخرى : هل ذهبوا لمكان بعيد ؟
ليومئ لها : نعم ، بعيد جداً .
يريد البكاء الأن بل الصراخ لكن ليس أمام هذه الطفلة ، فيقول مغيراً للموضوع : أنا أدعى آندرو ما أسمك أنت ؟ و يمد يده إليها .
لتضع يدها الدافئة بيده قائلة بإبتسامة كبيرة : أنا روز ، سررت بلقائك .
ليبادلها بإبتسامة : و أنا أيضاً سررت بلقائكِ ، لا يعلم ماذا فعلت به هذه الروز لكنها أجبرته للتو على الإبتسام حتى أنها أنسته حزنه على أخته التى كانت دموعه تأبى التوقف على فراقه قبل قليل ، فى الحقيقة هى تذكره ب(صوفيا) و هى صغيرة كانت مثلها تماماً لكنها كانت بشعر أشقر .
يقطب الأكبر حاجبيه بلطف : لكن ، لما انت هنا ؟
لتجيبه و ما زالت تلك الإبتسامة المشرقة على وجهها : لقد مرضت .
ليهز رأسه يهمهم قائلاً : طبعا أكثرت من الحلوى و آلمتك معدتك طيلة اليوم ، أراهن أنك تقيأت كثيرا و أقلقت والديك عليك .
لتنفى برأسها و تقول ببراءة : لا ، انا مريضة ب AML .
ليرفع حاجبه الأيمن و يقول : و ماذا يعنى AML ؟
فتجيبه قائلة : لوكيميا نخاعية حادة .
لتزول الإبتسامة التى على وجهه بالتأكيد علم ما تعانيه هذه الطفلة ، فتخرجه (روز) من عقله بصوتها الطفولى : هذا ما قاله الطبيب ، كان يتكلم مع امى ، انا سمعت ، امى لا تعرف ، أنا استطيع حفظ كل شيئ بسهولة .
فجأة تشوشت الصورة أمامه ليعلم أنه سيبدأ بالبكاء ثانية ، ليدير وجهه الناحية الأخرى لتكمل (روز) قائلة : يعنى سرطان ، يقولون ان السرطان مرض سيئ ، و كانه هناك مرض جيد .
فيمسح (آندرو) الدموع بسرعة ليلتفت للبريئة التى أمامه و يقول : أنا اسف ، لم اكن اعلم ، لم اتوقع ذلك ، اعنى عندما ضحكت بشكل جميل هكذا .....
تقاطعة (روز) و تقول : لماذا تعتذر؟ ، هل انت من امرضتنى ؟
ليجيبها و نظره بالأرض : لا ليس هكذا .
تتنهد هذه الطفلة و تقول له و هى عابسة متصنعة الغضب : مرة تحزن و مرة تعتذر ، ما هذا ؟ ليضحك وجهك قليلاً .
ليضحك (آندرو) على تعابير وجهها الصغير ، لم يستطع كتم ضحكته التى خرجت من باطن قلبه ، حقاً لا يعلم ماذا فعلت به هذه الفتاة ، أخرجته من العالم بأكمله بجلستها معه .
فترتسم على وجهها الجميل هذا إبتساة وصلت من أذنها للأخرى و قالت مشيرة على ضحكته : انظر ، انك تبدو جميلا بهذه الضحكة ، افعل مثلى ، تنزل إصبعها و تكمل : انا دائما اضحك ، مرضت و لكن ليس هناك ما يمكن فعله ، سنحارب و سيمضى هذا ما قالته امى ، عند سماعه لهذا أدار وجهه لتنزل دمعة من وجهه لا يريدها أن تراها فيسمعا تقول : أنا سأحارب الن تحارب انت ؟ ليلتفت لها يتأملها أيعقل فتاة مثلها بهذه القوة و أنا لا ! متأكد أن (صوفيا) من أرسلها له لتقول له أخى فلتكمل حياتك حارب لأجلى لا تستسلم ، ليجيب تلك النتظرة أمامه : يجب ان احارب اليس كذلك ؟ ، لا يعلم لما لكن لديه شعور أن أخته من تحدثه ليست (روز) يريد سماعها تؤكد عليه البقاء على قيد الحياة لأجلها و لأجل نفسه ، فتومئ له الجالسة أمامه مبتسمة و تجيبه بثقة : طبعا ، لا تفقد الامل ، الامل مهم .
فيبتسم (آندرو) و كأن (صوفيا) أعطته الإجابة فيسألها قاطب حاجبيه : كم عمرك انت ؟
تجيبه (روز) رافعة رأسها : ستة .
لتتوسع عيني (آندرو) و يقول بتعحب : ستة ليضحك و يكمل : هل انت متاكدة ؟ ، ليس اربعين أو ما شابه ، اليس كذلك ؟
لتضحك (روز) و تجيبه بين ضحكاتها الطفولية هذه : لا الن اكون اكبر منك حينها ؟
ليضحكا مع بعضهما و يجيبها : ستكونين ، نعم .
ليفكر فى نفسه لو لم تأتى تلك الطفلة ماذا كان سيفعل أيعقل أنه كان سينتحر ، نوعاً ما هو مدين لتلك التى أمامه .
ليقول لها بنبرة جادة : شكرا ، لقد اعطيتنى لا يعقل و انت عمرك ست سنوات .
لتجيبة واثقة من نفسها بإبتسامة زادت جمالها هذا : أنا ساصبح معلمة عندما اكبر اساسا .
ليردف : شكرا مجددا ، اذا هل هناك ما استطيع ان اجلبه من اجلك ؟ .... ما تشائين شيكولا ، مثلجات .
لتهمهم فتقول ببراءة : يوجد شيئ ما .... متبرع نحن نحتاجه ، هل تستطيع ان تحضر لى متبرعا ؟
ليرجع رأسه للجهة الأخرى فتدمع عينيه لأجلها هذه المرة ، هى لا تستحق ذلك حقاً ، لا يعقل أن تكون لتلك البراءة كلها ذلك المصير و المعاناة ، ليمسح دموعه و يلتقت لها مبتسماً فيقول و هو ممسكاً يداها : (روز) المتبرع ليس شيئا ، بل شخص ، انا ساتى و معى اصدقائى كل من اعرفه سنعطى دمنا ، ربما تكون فى جسد احدهم هدية ستساعدك ، سنحاول العثور عليه .
ستقفز روز من السعادة و تقول بصوت مبتهج : ذلك سيكون جيدا جدا .
لم يستطع (آندرو) منع نفسه أخذها بعناق طويل و طبع قبلة على خدها الوردى ، ليفصل العناق و يقول لها بعد تنهيدة قصيرة : معلمتى ، هيا لنعثر على امك .
لتنهض (روز) و هى تقول : هيا .
يمسك يدها الصغيرة و يسيروا معاً ، أخيراً علم ما الذى يمكن أن يقدمه لتلك الروز ، سيتحدث مع والدتها و يرتب أمر المتبرع ، فقد يأمل أن يرد لها ما فعلته معه بدون أن تعلم ، لقد أعطته أمل بالحياة بعد أن كان فقده بموت (صوفيا) عزيزته ، لابد أن يعطيها هى أيضاً الأمل ، و عد نفسه الأن أن يبقيها على قيد الحياة ، سينشر الأمل أينما ذهب الأن بفضل تلك الروز بجانبه .
التعليقات