كتب د/فريد عمارة (المتخصص في الهندسة المعمارية): "‏وأنا صغير كنت فاكر إن إلى سمى وحدة العناية المركزة ICU، كان طبيب شاعر رائق المزاج، اختار الاسم I see you بمعنى "أنا أراك" في لفتة لطيفة لإراحة المرضى. (متخافش أنا شايفك). بنفس الروح المُطمئنة في آية {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} وبعدين كبرت واكتشفت إن ICU هي اختصار بارد لعبارة‏ Intensive Care Unit، وأن صاحب التسمية طبيب لا شاعر رائق المزاج ولا حاجة. لعلها صدفة ظريفة مش أكتر، زي بقية الحاجات الجميلة الأخرى إلي بتطلع صدف في النهاية." .. القصة طبعا بالعامية المصرية ونقلتها كما هي.

استهوتني هذه القصة كثيرًا لأنني من محبي فك رموز الاختصارات ومحاولة فهمها، وأمارس هذه اللعبة كثيرًا مع نفسي على سبيل التسلية.. ولكن الأجمل في هذه القصة هو كيف تنعكس روحك وطريقة تفكيرك على رؤيتك وتفسيرك للأمور، فلأنه نظر للأمر بطريقة عاطفية وإنسانية (وليس بطريقة مهنية) تصور أن شخصا ما يمتلك قلبا حانيا اختار اسما لغرفة العناية المركزة يبعث على الطمأنينة في نفس المريض الذي سيسكن هذه الغرفة فترة من الزمن.. وقد يفكر فيها شخصا آخر من منظور مختلف فيعطيها اسما آخر (وأترك لخيالكم تصورات أخرى :))، وكذلك تعاملنا مع كافة الأمور يكون مرتبطا ارتباطا وثيقا برؤيتنا للحياة؛ بعض الناس يرى حتى في المحنة منحة، وبعضهم يقلب النعمة إلى نقمة لأنه لا يراها نعمة من الأساس.

وإليك قصة هذا الشاب الهندي الذي فقد إحدى ساقيه في حادث قطار وترجمها لنا الفلسطيني المبدع من غزة (سعيد كمال):

(اعتدتُ كل صباحٍ أن ألحق القطار من نفس الممر، فكان ذلك يُضفي نوعًا من الرتابة على حياتي، وفي احدى تلك الصباحات، طلبتْ مني سيدةٌ مسنةٌ ملء زجاجات الماء التي تخصها قبل أن تصعد على متن القطار. ولما رجعتُ انزلقتْ قدماي على الرصيف، فعلقتْ حقيبتي في واحدة من عجلات القطار المتحرك، وسُحِبتُ على خط السكك."

"لا أستحضر شيئًا مما حدث بعدها، فكل ما أعيه أنني أستيقظتُ بعد ثلاثة أيام ممددًا على سرير المشفى دون ساقي اليسرى. لا تملكني القدرة لأشرح لك شعور الخسارة الذي مررتُ به بعدها. وبختُ الأطباء، وصرختُ في وجه والداي، كنتُ كتلةً من الغضب، فكل تفكيري حينها محصورٌ في فكرة أن حياتي انتهت، فأنت تعرف شعور المرء حين يغادر بيته وهو قلق من تركه شيئًا خلفه، كان هذا في كل لحظةٍ. فقد غادرتني قطعةٌ مني لا حول لي ولا قوة في إرجاعها أبدًا، فقدتُ أملي لأقف مرةً أخرى وأمشي. فبدأت التدرّب على المشي مثل طفلٍ رضيع في أولى خطواته، ولم يكن ذلك إلا بمساعدة عائلتي وأطبائي، فتمكنتُ من مغادرة المشفى، وحين عدتُ إلى الجامعة، أشعرتني نظرة زملائي لطرفي المفقود بالضيق، للدرجة التي لم أُحسن التعامل معها. لذلك لم أرجع إلى الجامعة، اخترتُ أن أبقى في البيت، وبالتالي عدتُ إلى المربع الأول الذي بدأتُ منه. وقعتُ في اكتئابٍ حادٍ لمدة سنتين، شعرتُ معه أنّي مجردُ عبء على هذا الكون، حتى رغبتي في العيش ذهبت، وروحي انطفأت. لكن ما حدث غيّر منحى كل شيء، قفزتْ إلى عينّي صفحة على أنستغرام لشابٍ مبتور الطرف مثلي، آمن بنفسه أكثر من أي شيء، ولم يجعل شيء يُثنيه عن تحقيق حلمه، حتى عكازاته التي يستنذ إليها أخذ يرسم عليها لتبدو رائعة ومُلهمة. فاستغربتُ حينها من نفسي، ومن الشعور السيء الذي كنتُ أُربيه داخلي طيلة ما مضى، فمعرفة ذلك الشخص وغيره ممن فقدوا أطرافهم جعلتني أنظر لحياتي من زاوية أخرى، زاوية لا نستغل فيها خسارتنا لأشياء فينا كذريعة لنتوقف عن الشعور بالحياة. فقررتُ أخيرًا أن أنطلق دون رجعة لما كنتُ عليه، ويا لجمال النفَس الأول المُعبأ بُحب الحياة بعد انقطاعٍ عنها، أردتُ أن أسثتمر كل دقيقة من أيامي التي أحياها، هذه النعمة التي تكبرُ فيَّ. تبدّلت أحوالي، فاشتركتُ في سباقات الماراثون، والتحقتُ في نادٍ ألعبُ فيه الكريكيت، ورقصتُ أحيانا كثيرة في طريقي الذي أسيره إلى المدينة. صرتُ معروفًا بما لدّي من قدراتٍ ومهارات جديدة، فدُعيتُ إلى مجموعةٍ بارزةٍ تستضيفُ مبتوري الاطراف، فزاد فخري أنني جزءٌ لا يتجزأ من هذا المجتمع الذي أعيش فيه. يندهش الناس من حولّي أنّي لم أعد أشفق على نفسي. لديّ ثقة في نفسي تجعلني أخبرك أنك حتى لو جئت بعشرة رجالٍ ليبارزوني في نفس الموقف فإني سأتفوق عليهم روحًا وحضورًا. فكلما التقيتُ بأحدهم – قد تقع عيناه في بادئ الأمر على ساقي المبتورة، لكن ابتسامتي تأسره، فيتجنبُ سؤالي عما جرى. أمقتُ الذين يُلقون اللوم على العالم ليل نهار، لا يمكنك أن تتحكم في كل ما يحدث لك، ولا يمكن أن نتنبأ بالحياة بهذه الصورة، لذا ينبغي أن نترك الندم على ما فات، ونمضي في هذه الحياة بأفضل ما لدينا. فالذي تُظهره من تميزٍ في محطات حياتك المختلفة سيجعلك غير منسٍ على الإطلاق، وهذا أمر رائع. فما ظننته سيئا ربما يجعلك تتعثر في شيء لم تتوقع من قبل أن تجده، شيئا يجعلك أكثر سعادة من ذي قبل)