عن أكثر الكلمات جدلًا، وأثقلهم وزنًا ومقاما، عن سلاح النّفْس الأول، النافذة التي مِن خلالها يَميز الإنسان غَيره، أصادق هو؟ -يتمشى قوله مع فعله-، أم أنه كالمِذياع، ينطق ولا يعمل، عن المبادئ ستكون رحلتنا. هل هي الكلمات المَوزونة الرنّانة بنغمات الشدة والثبات، أم إنها جوادٌ لا تُعرف حقيقته إلا في أرض المعركة؟
في عالمِنا -عالم الشكليات والنفاق- ما أكثر الذين يتغنون بالمبادئ والقيم! يرسمون لوحاتها على جدار الحياة فرحين، وفي مُخيلتهم أن ذلك أصوب الصواب، فإذا ما كانوا في المأزق الأشد؛ إذ تُختبر مبادئهم، ويا لشدة الموقف؛ فترى الذين حَسبتهم عِلية نفسٍ أحطها وأوضعها، فالمبادئ -سلمك الله- ليست عبارات تُردد أو كلمات تُحفظ على غير بينة، فتسقط وتذبل كأوراق الشجر، إنما هي مواقف وقرارات تُعدها العزيمة والإرادة ويستظهرها الصبر واليقين، ويعلنها والإيمان والعمل، حتى تكون واحد من أمرين:
اما الذين اُختبروا، فثبتوا غير مُزحزحين ولو شبرًا حتى آخر ذفرة، أولئك أصحاب القلوب المضيئة الصادقة ذوو الطرق المستقيمة، أصحاب الإيمان الأصدق، والعمل الأتقن، الذين تُروى حقول الصبر واليقين من مواقفهم وأخلاقهم، تحتمي في صدورهم مرادفات العزيمة والإصرار، أولئك من فازوا وانتصروا، فازوا بنفوسهم النقية، وانتصروا على الحياة الفانية الكاذبة، أولئك لهم أن يفخروا بأنفسهم حق الفخر، فلمثل هذا كان الفخر موجودا.
أو الذين اُختبروا، فتماسكوا وحاولوا، إلا إنهم سقطوا، وهنا يكون للسقطة علامة في ذاكرة المرء؛ إذ تُعطيه درسًا لا يُنسى، وتفتح مداركه على حقيقة الحياة، فيستشعر مواطن القوة وينزلها، ويعرف منازل الضعف والهوان فيبعُدها، ومثلنا يرممون مبادئهم، لا يبكون حظهم، ولا يزيدهم هذا إلا قوةً وإصرارا، يبدأون طُرقًا جديدة، ولا يستسلمون حتى تُختبر مبادئهم أخرى، فتضئ هذه المرة وتُزلزل تحتها ثباتًا وقوة.
والعجب كل العجب منك يا من لم تُختبر مبادئك بعد، وتعتز بنفسك وتختال فخرًا، وتبني فضيلتك على سقطات الآخرين، كالذي يتسول هددا منازلهم ليبني قصرًا، فلن تعرف معنى الثبات والصدق حتى تكون في طليعة المعركة، تنزل بين الوضّاعين والفاسدين وتسير غير آبه لقيل أو قال، تضرب بكلام الفواهين من البشر عرض الحائط، لتنظر هل تظهر قوة مبادئك وقتها أم ستصبح سرابًا لا وجود له؟
فالمسألة وقت لا غير، ستُختبر مهما بَعُد الميعاد، فكل منّا لديه معركته الخاصة، فقط نختلف في الوقت الذي تبدأ فيه الحياة، وفي وقت الاختبار تظهر العزائم على حقيقتها، ويتجرد الجميع من أقنعته، يوم تُغلق طرق كنت تظنها لا تنتهي، وتُهدم أحلام خِلتها ستبلغ عَنان السماء، وتُسلب منك أشياءً كانت كقطعة منك، وتُفارق أرواحًا كانت كمصباح لك، إن تمر بهذا كله -يا صديقي- وتَثبت مبادئك حقًا، لك أن تفتخر وتختال كما شِئت، لكن لا تكن كالسباح الجبان يقف على الشاطئ المالح ويحتفل بغرق الذين حاول الوصول للمياه العذبة.
إن الحياة معادلةٌ لا وزن لها ولا ميزان؛ إذ إنك بقدر ما تعطيها تأبى أن تعدل، فتسلبك ضعف ما أخذت وليس ذلك فحسب، بل ولن تختبرك إلا فيما تعلّقت به حد الموت، هكذا هي دائمًا بقدر ما نتعلق بالأشياء فيها بقدر ما تزداد رغبتها في القضاء عليه، لنصل إلى حقيقة كلنا نعمى عنها مهما تفتحت أعيننا: “كل شيء ما خلا الله باطل، وكل نعيمٍ لا محالة زائل”.
ومهما ثَبت، ستزِل قدمك يومًا؛ فالحياة لا تدوم لأحدٍ. الأهم مهما هُزمت، كن شجعًا ولا تيأس، أعد المحاولة، استفد من أخطائك، رتب خطواتك ولا تجعل ثرثرة الناس تُثنيك عن هدفك، فالناس يغيرون وجوههم كل يوم، بل كل ساعة، والله -وحده- من يَهبنا فرصة جديدة في الحياة.
التعليقات