من النادر لشخص يستخدم الإنترنت في حياته اليومية أن لا يفتح ويكيبيديا عدداً من المرات كل أسبوع أو مرات عديدة كل يوم. من السهل القول أن هذه الموسوعة الإلكترونية هي أول مصدر للمعلومة في زمننا الحالي، فهي خامس أكثر المواقع زيارة على الإنترنت في جميع أنحاء العالم، وقد كانت سبباً في سنة 2010 بإلغاء النسخة المطبوعة من الموسوعة البريطانية بعد 244 عاماً متواصلةً من صدورها،[1] كما كان لها دورٌ إضافي في تهميش الدوائر المعرفية والكثير من مصادر المعلومة التقليدية منذ انطلاق الإنترنت.

ولا زال معظم الناس الذين يستخدمون ويكيبيديا، رغم كلّ ذلك، لا يفهمون طريقة عملها ولا يعرفون القصة الرائعة التي وراءها، وهي قصة أصبحت أكبر موسوعة معرفية في عصرنا -بفضلها- هبةً للبشرية بأكملها. سوف تروي هذه السلسلة (المُكوَّنة من خمسة أجزاء) قصة هذه الموسوعة وطريقة إدارتها وعملها وكيفية المشاركة ببنائها، خطوة بخطوة، أملاً في أن تكون بداية لمبادرة تسهمُ وتعزّز الحال المتأخرة للمحتوى العربي على الإنترنت.

عن ويكيبيديا

ويكيبيديا هي موسوعة تطوعية حُرّة، قائمة بالكامل على جهود تطوعية وتغطى جميع مصاريفها من تبرّعات ومساهمات خيرية. فكلّ مقالة فيها وكل كلمة على صفحاتها وكل صورة تعرضها التقطها وكتبها وطوّرها أشخاص عاديون، من طلاب مدارس وجامعات وموظفين وغيرهم، لا لسبب إلا رغبةً بالعطاء لغيرهم. إذ إن كل الناس قادرون على الاستفادة من هذه الموسوعة يومياً دون مقابل، وبعضهم لا يشعرون بالرّاحة بالقيام بذلك دون ردّ الجميل من وقتهم وجهدهم. ولأن جميع الناس يشاركون في صنعها، فإن كلّ مقالاتها وصورها ومحتواها يعتبر -قانونياً- ملكية عامة، فهو حقّ عمومي لكلّ سكان الأرض.

وبسبب هذه الطبيعية غير التقليدية لويكيبيديا، تدور حولها الكثير من التساؤلات والمخاوف من الجمهور أحياناً. فهل يمكن أن يتم التلاعب بمحتواها وتكريسه لأجندة أيدولوجية وسياسية؟ وهل من الممكن الثقة بموقع بإمكان "أي شخص" أن يعبثَ به؟ ولفهم إجابات هذه الأسئلة جيداً، لا بدّ -للبداية- من أخذ نظرةٍ أوسع إلى مبادئ ويكيبيديا وطريقة عملها.

ثمة خمس قوانين أساسية تنطبقُ على جميع نسخ ويكيبيديا بلغات العالم المختلفة، وهي تنصّ على الآتي:[2]

  1. ويكيبيديا موسوعة، فهي تحترم أسلوب العمل الموسوعي من حيث ضرورة الاستشهاد بالمصادر والتوثق مع المعلومة وموضوعية الطرح.

  2. ويكيبيديا حيادية، فهي قائمة على تعدّد الآراء وعرض جميع وجهات النظر دون تفضيل واحدةٍ على الأخرى.

  3. ويكيبيديا حرة، فمحتواها منشور تحت رخصة المشاع الإبداعي التي تسمح بمشاركته ونشره واستخدامه بكافة الوسائل دون قيود وعقبات قانونية.

  4. ويكيبيديا لها قواعد للنقاش، فهي تسعى للوصول إلى القرار بالتوافق المتبادل والإجماع والنقاش العقلاني.

  5. ويكيبيديا ليست لها قوانين ثابتة، فهي منفتحة للتغيير والتطور حسب رؤية المجتمع ورغبته.

من يملك ويكيبيديا؟

خلال السنوات العشر الماضية التي قضيتها في التطوّع لويكيبيديا وتنظيم فعاليتها وورش تعريفية بها، كان أكثرُ سؤال أسمعه -بعد كل مرة أُقدّم فيها تعريفاً أساسياً عن الموسوعة- هو: "من يملك ويكيبيديا؟"، متبوعاً ببعض التخيمنات، مثل "أهي غوغل أم فيسبوك؟". والإجابة على هذا السؤال تُلخّص أهم شيء على قرّاء ويكيبيديا أن يعرفوه. مثلما يقولُ شعارها دوماً في الزاوية العلوية اليمنى (أو اليسرى) من صفحاتها: ويكيبيديا هي "الموسوعة الحُرّة"، فهي ليست ملكاً لأحد، لا لشركة ولا لمؤسسة ولا لشخص، إنَّما هي للبشر جميعاً. فكيف حدث ذلك؟

لا أظنّ أن من السهل على الناس استيعاب الطريقة التي تعملُ بها ويكيبيديا: أولاً لأنها -بحدّ علمي- فريدة في العالم بنموذج العمل الذي تتبّعه، وثانياً لأن الناس معتادون جداً على فكرة أن كل شيء حولهم تديره شركة أو يملكه شخص واحد ينسبُ إليه كلّ عمل هذا المشروع ونجاحه وإنجازاته، إلا أنّ ويكيبيديا تخرج تماماً عن هذه القواعد والأعراف المعتادة. فهي موسوعة رقمية كاملة يديرها المتطوعون من الألف إلى الياء، وليس لمؤسسة أو حكومة أو دولة أن تتدخّل فيها بأي طريقة تشاء.

يتألف هرم ويكيبيديا الإداري بأكمله من جيش من المتطوعين يتجاوز عددهم شهرياً 70,000 شخص.[3] وجميع هؤلاء الأشخاص -بطريقةٍ ما- لهم دور في اتخاذ القرارات المختصة بالموسوعة وإبقائها تعمل بصورة يومية. وقد يدهشك أن بإمكان موقع بحجم ويكيبيديا وأهميتها أن يديره هذا العدد من المتطوعين الذين لا يتلقّون قرشاً مقابل عملهم، فيما أن شركة غوغل تحتاجُ إلى عددٍ أكبر من هذا من الموظّفين مدفوعي الأجر لتشغيل إمبراطوريتها الرقمية. نُسمّي هؤلاء المتطوعين "مجمع ويكيبيديا"، وهم عماد الموسوعة وأساسُ نجاحها.

مجتمع الموسوعة

لا يوجد أي قرار في ويكيبيديا -مهما كان صغيراً أو كبيراً- يتخذ بدون إرادة المجتمع، سواء أكان ذلك القرار هو حذف مقالة مخالفة أو تغيير الهرم الإداري للموسوعة، والوسيلة التي يستطيع المجتمع أن يصلَ إلى أيّ قرارٍ من هذه القرارات أو بطرحه للمناقشة على الملأ، والتي يمكن لأي أحد رؤيتها وقراءتها والمشاركة فيها بحسب ما يشاء.

إلا أنَّ من الصعب علينا الخوض في آلية سير هذه النقاشات دون فهم من يخوضها، أو من نسمّيهم "المجتمع"، وذلك لأن فكرة المجتمع هي عماد موسوعة ويكيبيديا ومصدر قوّتها وعبقريتها، والتي ما كان يمكنُ -لولاها- لأكبر موسوعة في تاريخ البشرية أن تكون ملكاً للجميع. فمن هم المجتمع؟

نحنُ نعتبر كل شخص يساهم في صناعة ويكيبيديا جزءاً من المجتمع، سواء أكانت مساهمته في صناعتها كتابة مقالة أو إصلاح خطأ إملائي أو الانخراط بالعمل التطوعي فيها لخمسة عشر عاماً، مثل بعض المساهمين لدينا. ولا يوجد فرق في المرتبة بين هؤلاء الناس، فعند وجود نقاش يطالب بتغيير قانون من قوانين الموسوعة، يمكن لأي شخصٍ منهم أن يدلو بدلوه ويشارك بنصيبه دون أي مانع (والكثير من المتحّمسين، مثلي، يجربون ذلك خلال أسابيعهم الأولى من التطوع).

في المقابل، عليك أن تأخذ بعين الاعتبار أن النقاش في موقع يملكه جميع الناس ليس -بالضرورة- تجربة سعيدة وبسيطة من التعاون والتآلف بين الناس، بل العكس تماماً: إذ ثمة لديك ما بين عشرات إلى مئات الأشخاص الذين لديهم وجهات نظر مخالفة ومتعاكسة تماماً، ويسعى كلّ منهم للوصول إلى نتيجة تحقّق ما يريد بالضّبط. إذاً، كيف يمكنك الوصول إلى أي قرار في ظلّ هذه الظروف الصعبة؟

طريقة الإدارة

يقول أحد أهم قوانين الموسوعة: "ويكيبيديا ليست تجربة للديمقراطية"، وينصّ هذا القانون على أن مجتمع ويكيبيديا لا يتخذ القرارات بالتصويت. لو كانت قرارات ويكيبيديا قائمة على كثرة الأصوات، لأمكن لأي شركة استئجار ألف شخص ليدخلوا إلى الموسوعة ويصوتوا لطرد هيئتها الإدارية وتعيين موظفين من هذه الشركة مكانهم. وبدلاً من ذلك، يقومُ مبدأ اتخاذ القرارات فيها على النقاش العقلاني الذي لا يمكن حسمه إلا بالإجماع، أي بحلولٍ وتسوياتٍ تنال رضى جميع أطياف المجتمع. وهو ليس أمراً سهلاً أبداً.

ميزة هذه الطريقة في العمل هي أنها تضمن -في الحدود الممكنة- الوصول إلى القرار الصحيح. لو كان هناك شخص واحد على حقّ، وكان لديه من الصبر والتأني ما يحملهُ على مناقشة عشرة أو عشرين أو ثلاثين يخالفونه في الرأي، فقد يكون قادراً على الإتيان بدلائل وحجج منطقية، إما من مصادر أكاديمية أو من قوانين وسياسات ويكيبيديا أو غير ذلك، لإثبات وجهة نظره وفرضها على الأغلبية.

في واحدةٍ من الحالات، احتاج حسم نقاش واحد على ويكيبيديا العربية لأكثر من سنة ونصف من الأخذ والرد وما يزيد عن خمسين ألف كلمة من الحوارات، أي ما يعادل طول كتاب متوسّط الحجم. إلا أن النقاش أغلق في آخر المطاف بالتوافق والرضى المتبادل بين أطراف المجتمع، وهو الهدف الذي تسعى آلية العمل في ويكيبيديا للوصول إليه دوماً.

يقومُ المبدأ الأساسي في ويكيبيديا على التعاون والتشارك، ولذلك فإن قوانينها وسبل اتخاذ القرار فيها تسعى لتحقيق ذلك قدر الإمكان. في الجزء التالي، سوف نتحدث عن المجتمع الذي يعمل على تطبيق هذه القوانين، وعن كيفية تطوره عالمياً وعربياً حتى وصوله إلى شكله الحالي.

المصادر

[1] "Encyclopaedia Britannica stops printing after more than 200 years" (باللغة الإنجليزية). 2012-03-14.ISSN 0307-1235. اطلع عليه بتاريخ 28 يناير 2019. الرابط:

[2] "Wikipedia:Five pillars". Wikipedia (باللغة الإنجليزية). 2018-11-17. الرابط:

https://en.wikipedia.org/wi...

[3] "Wikipedia Statistics - Tables - Active wikipedians". stats.wikimedia.org. اطلع عليه بتاريخ 28 يناير 2019. الرابط:

https://stats.wikimedia.org...