بعض الناس، إذا طلبت منه كوب عصير، فإنه لن يذهب لشراء الفاكهة وعصرها، بل سيفكر في الذهاب إلى مشتل يبيع بذور أشجار الفاكهة، ويشتري شتلة، ويزرعها في أرض خاصة، بعد ذلك سيذهب إلى مقالب الخردة ليحصل على زجاج مكسور، وإلى المحاجر للحصول على الرمال الناعمة، سيصهر الزجاج مع الرمال ليصنع عجينًا زجاجيًا قابلًا للتشكيل، ويصنع منه كوبًا ليقدم لك فيه العصير.

وبعد أن تثمر الشجرة، سيقطف الثمار وينظفها ويقشرها ويعصرها بطرق تقليدية، بينما يرسل له صديق يعيش في القارة القطبية جليدًا من نوع خاص، كل هذا لكي يضع لك العصير مع الثلج في الكوب ويضعه على قبرك.

المشكلة هي أنك لم تطلب منه حتى شراء الفاكهة وعصرها؛ علبة عصير صغيرة كانت لتكفي، لكن بعض الناس يزيد على ما طُلب منه ظنًا منه أن هذا هو الإتقان، والحقيقة أنه لا ينفذ أي شيء مما فكر فيه، بل يعتذر في النهاية، مدعيًا أن إمكانياته لا تساعده على تلك الرحلة الملحمية من أجل كوب عصير، وقد كنتُ أفكر بهذه الطريقة التي عطلتني عن تطوير نفسي لسنوات.

فطبقات المهام التي كنت أفرضها على نفسي بداعي الرغبة في الإتقان كانت تفتك بعزيمتي وتشعرني بالعجز، لأنني كنت أظن أنه لا بد من تنفيذ الأمر بتلك الطريقة "الصحيحة"، إلا أنني في الحقيقة كنت أخدع نفسي وأقع في فخ من فخاخ التسويف.

عندما تسند إلى عقلك مهمة ما يريد التهرب منها، فإنه لا يرفضها ببساطة، عوضًا عن ذلك يصعّبها، ويزيد من المهام المطلوبة لتنفيذها، فيصبح أداؤها صعبًا جدًا ويحتاج إلى إمكانيات غير متوفرة حاليًا، مما يجبرك على الانسحاب، حتى لو بدت المهمة بسيطة في البداية، تنفيذ المهمة في الأساس لا علاقة له بكل ما في خيالك من مهام جانبية غير ضرورية بداعي الإتقان.

فإذا طلب منك مديرك، على سبيل المثال، إعداد تقرير حول المبيعات، فإن كل ما عليك هو قراءة بيانات المبيعات وتحليلها، سواء بنفسك أو باستخدام أدوات تحليل، لكنه لم يطلب منك إعداد بحث شامل عن مبيعات الشركة، بل مجرد تقرير بإطار زمني واضح، ومع ذلك تجد البعض يغرق نفسه في تفاصيل لا علاقة مباشرة لها بموضوع التقرير بداعي الإتقان والاجتهاد.

والحق أنها طريقة لتأخير لحظة كتابة التقرير، خاصة إذا لم يكن لتلك الخطوات الإضافية أي قيمة فعلية يمكن أن تضيفها للمهمة الأساسية، فمنذ عصور الإنسان الأول، ونحن نبحث عن طرق لتسهيل المهام والأعمال، حتى وصلنا اليوم إلى تقنيات الحوسبة الكمومية والذكاء الاصطناعي.

لذا فالإتقان هنا يكمن في القدرة على إنجاز أكبر قدر من العمل بأقل قدر من الجهد والوقت والموارد بلا هدر، وليس في إنفاق الوقت والجهد والموارد في مهمة بسيطة لا تستدعي كل هذا، ويمكن اختصار الأمر في نصيحة بسيطة واحدة: اعمل بما لديك، وليس كما يعمل الآخرون.