يعتبر الذكاء الاصطناعي (AI) واحدًا من أكثر المجالات تأثيرًا في العصر الحديث، حيث يسعى إلى محاكاة القدرات العقلية البشرية من خلال الأنظمة الحاسوبية. ويعود تاريخ الذكاء الاصطناعي إلى عدة عقود، ويعكس تطورًا مستمرًا في فهمنا لكل من الذكاء البشري والتقنيات الحاسوبية.

الجذور التاريخية

في العصور القديمة، كان هناك اهتمام بفكرة صنع آلات تحاكي الذكاء البشري. على سبيل المثال، في الفلسفة اليونانية، ناقش الفلاسفة مثل أرسطو مفهوم العقل والتفكير.

بدايةَ القرن العشرين واجهت الرياضيات "أزمةَ أسس" هددت مبناها، بسبب تمديد "نظرية المجموعات" العدَّ المنتهي إلى ما لا نهاية، فصاغ عالم الرياضيات ديفيد هيلبرت برنامجًا يميِّز بين نحو اللغة الشكلية للرياضيات ودلالاتها (سيمنطيقاها)، فتراجعت "الأكسمة" (الدراسة النقدية لمبادئ البرهنة الرياضية) لمصلحة إظهار خصائص الرياضيات المنطقية مجردة من كل محتوى تمثيلي، مفترضًا (هيلبرت) إمكان إثبات الحقائق الرياضية بخطوات محدودة تكون مجموعة قابلة للتقرير إذا كان ثمة خوارزميةٌ تحدد انتماء كيانٍ ما ميكانيكيًّا إليها من عدمه بالإجابة بـ "صواب" أو "خطأ"، وكان هيلبرت مهووسًا بمسائل الرياضيات التي لم تستطع إيجاد حل، فطرح إشكاليةَ "هل توجد مشكلة رياضية لا يمكن إثباتها بتقديم خوارزميةٍ ما إجابةً بـ ’نعم‘ أو ’لا‘"؟

إن تحديد المشكلات القابلة للحساب سؤال صعب، وقد اقترح عالم الرياضيات الإنكليزي آلن تورينغ لحلّه في الثلاثينيات آلة لهيكلة التفكير تستخدم شريطًا لانهائيًّا (ذاكرة غير محدودة) لإدخال المعطيات وحلّ المشكلات، وتمكنها محاكاة أشكال الفكر البشري والتعبير عنه بلغة. وقد تميزت آلة تورينغ بفكرة ثورية، وهي تخزين المعطيات والقدرة على استرجاعها وتعديلها.

بداية الأربعينيات اقترح بعض العلماء نموذجاً للخلايا العصبية الاصطناعية، وبناءً على عمل تورينغ طوّر فون نيومان في عام 1945 أول حاسوب تُخزَّن برامجه في ذاكرة.

كان تورينغ أيضًا واضعَ فكرة "التفكير الرقمي" للحاسوب، موضحًا، في مقالة فلسفية له بعنوان "آلات الحوسبة والذكاء" (عام 1950)، أُسسَ المفاهيم المركزية للذكاء الاصطناعي بعده، بالاشتراك مع علوم الاتصال والتحكم الآلي والسيبرانية (التي عرفت فورة غير مسبوقة بسبب مزاوجتها بين تحليل الأنظمة البشرية، كالمخ والخلايا وغيرها، والمعلومة). أثار آلان تورنغ Alan Turing عند نشر ورقته البحثية التساؤل حول هل الآلة قادرة على التفكير؟

وبدأ العلماء في تطوير النظريات الرياضية التي تدعم فكرة الذكاء الاصطناعي. وكان من بينهم آلان تورينغ، الذي اقترح "اختبار تورينغ" كمعيار لتحديد ما إذا كانت الآلات قادرة على التفكير.

في عام 1956 صاغ جون مكارثي مصطلح "الذكاء الاصطناعي" في أول مؤتمر للذكاء الاصطناعي على الإطلاق في كلية دارتموث.

النشأة الرسمية

    يُعتبر مؤتمر دارتموث، الذي عُقد في عام 1956، النقطة الفاصلة في تأسيس الذكاء الاصطناعي كحقل دراسي مستقل. جمع هذا المؤتمر مجموعة من العلماء مثل جون مكارثي، مارفن مينسكي، ونيكولاس ويزنر، حيث تم وضع المصطلحات الأساسية وتحديد الأهداف. وفي الستينيات، تم تطوير أول برامج الذكاء الاصطناعي، مثل برنامج "DENDRAL" لتحليل البيانات الكيميائية و"SHRDLU"  للتفاعل مع اللغة الطبيعية. ورغم أن هذه البرامج كانت بسيطة، إلا أنها شكلت أساسًا لفهم كيفية عمل الذكاء الاصطناعي. وفي عام 1967 صنع فرانك روزنبلات آلة "مارك آي بيرسبترون"، وهو أول كمبيوتر يعتمد على شبكة عصبية "تتعلم" من خلال التجربة والخطأ. وبعد عام واحد نشر مارفن مينسكي وسيمور بابيرت كتابا بعنوان "بيرسبترون"، وأصبح عملا بارزا حول الإدراك الحسي، أحد أنواع الشبكات الاصطناعية التي طورت في أوائل الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.

خلال السبعينيات والثمانينيات، شهد الذكاء الاصطناعي فترات من التفاؤل والازدهار، حيث تم تطوير أنظمة متقدمة مثل الشبكات العصبية والأنظمة الخبيرة. ففي الثمانينيات أصبحت الشبكات العصبية تستخدم خوارزمية الانتشار العكسي "لتدريب" نفسها، واستُخدِمت على نطاق واسع في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وهي عنصر أساسي في التعلم العميق. ومع ذلك، واجه هذا المجال أيضًا فترات من الإحباط بسبب القيود التقنية.

عام 1995 نشر ستيوارت راسل وبيتر نورفيج كتاب "الذكاء الاصطناعي.. نهج حديث"، وأصبح أحد الكتب المدرسية الرائدة في المجال. وفي عام 1997 تغلب جهاز "ديب بلو" من شركة "آي بي إم" على بطل العالم غاري كاسباروف، في مباراة للشطرنج، وعام 2004 نشر جون مكارثي ورقة بحثية بعنوان "ما الذكاء الاصطناعي؟"، واقترح فيها تعريفا له بأنه "علم وهندسة صنع آلات ذكية " وفي عام 2011 تغلّب الحاسوب "واستون" من شركة "آي بي إم" على البطلين كين جينينغز وبراد روتر في برنامج المسابقات التلفزي "جيوباردي" الذي كان يقدمه ميرف غريفن على قناة "سي بي أس" الأميركية. وفي عام 2015 استخدم حاسوب "مينوا" العملاق من شركة "بايدو" نوعا خاصا من "الشبكة العصبية العميقة" تسمى "الشبكة العصبية التلافيفية" (تشتهر باسم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي) وتستخدم التعلم العميق لتحديد وتصنيف الصور بمعدل دقة أعلى من الإنسان العادي. وفي عام 2016 تفوَّق برنامج الذكاء الصناعي "ألفا غو"، الذي صنعته شركة "ديب مايند" التابعة لـ"غوغل" على اللاعب الكوري الجنوبي لي سيدول، المحترف في لعبة "غو" الآسيوية التقليدية، في مباراة من 5 مراحل. وتشتهر هذه اللعبة القديمة بتعقيدها، إذ تعتمد على الإستراتيجية والحدس وتحتمل كثيرا من الاحتمالات، واعتقد كثيرون في المجال أنه لا يمكن لآلة التفوق فيها.

ومع التقدم في الحوسبة والبيانات، شهد الذكاء الاصطناعي نهضة كبيرة. وتم تطوير تقنيات مثل التعلم العميق، مما أتاح تحقيق تقدم كبير في مجالات مثل معالجة الصور، التعرف على الصوت، واللغة الطبيعية. ثم بدأ الذكاء الاصطناعي يدخل في الحياة العامة للناس، فاستعمل في مكانس كهربائية ذكية وأجهزة طهي، وفي السيارات الحديثة ذاتية القيادة، وفي الساعات الذكية والهواتف الحديثة وما تحتويه من "مساعد صوتي" مثل "سيري" في أجهزة الآيفون و"بكسبي" لمستخدمي سامسونغ. وأدى إطلاق برنامج "شات جي بي تي" عام 2022 إلى إحداث تغيير هائل في أداء الذكاء الاصطناعي وقدراته التوليدية الجديدة، فصار يحاكي البشر ويقدم معلومات بناء على قاعدة بيانات كبيرة، واستطاع عمل مهن وبمهارات كانت طوال الزمن خاصة بالبشر. ولم تقف حدود الذكاء الاصطناعي عند هذا الحد، بل أصبح يولد صورا وفيديوهات ونصوصا صوتية مقروءة بأشكال وأصوات مختلفة حسب المعطيات التي تطلب منه، وبات يستخدم لإنتاج أعمال كاملة كانت تتطلب عمل شهور خلال وقت قصير، وبفضل تقنيات التعلم الآلي، تقوم الآلات بالتعرف على الكلام وتدوينه، مثلها مثل السكرتيرة، وتقوم أخرى بالتعرف بدقة على سمات الوجه أو بصمات الأصابع من بين عشرات الملايين، وقراءة النصوص المكتوبة باللغة الطبيعية. كما وجدت بفضل هذه التقنيات آلات قادرة على تشخيص الورم الميلانيني أفضل بكثير من الأطباء المختصين في الأمراض الجلدية، وذلك اعتمادا على صور فوتوغرافية للشّامات الجلدية يتم التقاطها باستخدام الهواتف المحمولة. وأصبحت الروبوتات تحل محل الإنسان المقاتل في الحروب، وآلية سلسلة الإنتاج بالمصانع في تزايد مستمر.