فصحى عصرية
فاروق شوشة
يحرص علماؤنا اللغويون المعاصرون على التمييز بين مستويين من الفصحى التي نستعملها الآن، المستوى الأول هو فصحى التراث أو الفصحى التراثية التي هي عنوان على الصحة اللغوية ونموذج رفيع لسلامة التعبير وفصاحته، كما أنها السجل الذي يضم صفحات التراث العربي في مجالاته الأدبية والدينية والمعرفية المختلفة.
أما المستوى الثاني فهو فصحى العصر أو الفصحى العصرية وهي بدورها السجل الذي يضم علوم العصر الحديث ومعارفه، وتتنوع مجالاتها بتنوع حضارة المجتمع واتساع معارفه وغناها، في مجالات العلم والفن والإنسانيات والأدب والسياسة والاجتماع والاقتصاد فضلا عن الصحافة والإذاعة والتلفزيون.
ويرى البعض أنه إذا كانت فصحى التراث أعلى في السلم اللغوي من حيث الصحة مقارنة بفصحى العصر، فإن فصحى العصر أكثر غنى واتساعا ووفرة في المفردات والصيغ، والقدرة على استيعاب ما يدخل في جسم العربية من مفردات وتعابير- عن اللغات الأجنبية- نتيجة للترجمة أو التعريب، فضلا عن اتساعها المستمر لكل ما يضاف إلى المادة اللغوية نتيجة للاشتقاق والقياس والتوليد، من خلال الجهد الدائب للمجامع اللغوية العربية، في العمل على إثراء لغتنا العصرية وإمدادها بكل ما يجعلها قادرة على الوفاء باحتياجات العصر واستيعاب منجزاته وما يحمله من جديد لا يتوقف.
والطريف أن كثيرا مما نستخدمه الآن من تعابير هي في حقيقتها تعابير مستحدثة تمثل جانبا من ابتكارات المترجمين، لم يعد يستوقف أحدا للسؤال عن عروبتها أو أصول صحتها اللغوية بعد أن أصبحت جزءا من التراث العربي، بينما كانت هذه التعابير موضع استنكار عدد من علمائنا منذ حوالي نصف قرن، عندما جمع الأستاذ محمد كرد علي- عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة- مجموعة من التراكيب التي وصفها بأنها: "ما أنزل الله بها من سلطان"، وقدم لها بهذه الكلمات المؤثرة لعله يستعدي عليها أعضاء المجمع قائلا:
"لا أكتمكم يا سادتي أن سمعي لم يتألم قط أكثر من تألمه عند سماع لفظ أو إضافة جاءنا بها المشتغلون بعلم الترجمة، فنسبوا إلى التربية "التربوي" وأتونا بعد ذلك بألفاظ وتراكيب لو حلفنا لأهل عصور زهو العربية بالطلاق والعتاق أنها عربية ما صدقوا ولا آمنوا".
ثم يقول: "جاءنا متفاصحو المترجمين بتركيب: النزعة الواقعية، القوة الوجدانية، الذاتي، الموضوعي، الإقليمي، الطريقة الاعتباطية، من حيث الأساس، ضرب الرقم القياسي، النزعات السياسية السائدة، عمل على ضوء كذا، رفع رأس أمته عاليا، يذرف دموع التماسيح، تكهرب الجو بينهما، يحيطها بهالة من الرهبة، السوق السوداء، ذر الرماد في العيون، فشلت المناورة، يضحي على مذبح أغراضه، طلب يد فلانة، رجل الساعة، ظهر على مسرح السياسة، تم الأمر بحسب الخطة المرسومة، حقول العلم والأدب، الشخصيات البارزة، فقيد الواجب، تلطيف جو الاحتفال، المركز الاستثنائي، التربية الإيجابية العالية، ليس سلبيا بل إيجابيا.." وغير ذلك.
وما كان يرفضه ذوق بعض علمائنا، منذ نصف قرن صار اليوم مقبولا وشائعا، ومحكوما له بالصحة والصواب، بل لم يعد من المتصور أن تقوم لغة عصرية بالتعبير عن احتياجات هذا الزمان من غير أن تستعين بهذه المفردات والتعابير، وما دمنا نستورد - حتى اليوم- مظاهر الحضارة ومبتكرات العلم من صناع الحضارة الغربية، فلا مفر من اقتراض العديد من المصطلحات والمسميات الأجنبية التي وضعت لهذه المخترعات والمبتكرات في مهدها الأصلي، ويوم يكون لدينا لم عربي، ومخترعات عربية، وإضافة إلى سجل الحضارة المعاصر، نستطيع أن نخلع عليها من المسميات العربية ما نشاء، من غير أن نجد أنفسنا مضطرين إلى الترجمة أو التعريب أو الاقتراض، وهو اقتراض لا يتم- عندما يتم- دون رقيب أو حسيب، فهناك دائما الرأي العام اللغوي المناهض لمبدأ الاقتراض من الفصحى، وهناك سدنة المجامع اللغوية في العديد من الأقطار العربية وجهدهم الحريص على ألا تفقد العربية المعاصرة شخصيتها الأصيلة والمتميزة وسط طوفان الدخيل، وبين الانفتاح على جديد يغني العربية عن طريق الاقتراض، والوقوف في وجه هذا الاقتراض من بعض الأفراد والهيئات يتحقق التوازن المنشود في مسيرة لغة العصر يوما بعد يوم وجيلا بعد جيل.
ولعل الشاعر والفيلسوف المهجري جبران خليل جبران أن يكون أسبق أدباء العصر في الدعوة إلى التجديد، التجديد في اللغة وطرائق التعبير والإبداع، فالشاعر عنده هو كل مجدد يضيف جديدا إلى اللغة، لونا جديدا إلى ألوانها وشراعا جديدا إلى "أشرعتها" وليس ذلك الذي يكون همه تقليد ما مضى وترسم خطى السابقين عليه بالمحاكاة واقتفاء الأثر، فالمبدع الحقيقي- في اللغة وباللغة- يغامر في طريق لم يعبدها سواه، وينشر أجنحته على آفاق لم يكتحل بنورها غيره، ويعود بكنوز جديدة تضاف إلى ما تحويه لغتنا الجميلة من كنوز.
"بكاء شيزر"
للشاعر الفارس أسامة بن منقذ
بين الشام ومصر كانت حياة الشاعر الفارس أسامة بن منقذ الذي ولد في شيزر قرب حماة سنة أربعمائة وثماني وثمانين هجرية، وكانت وفاته في دمشق سنة خمسمائة وأربع وثمانين. وهو واحد من فرسان بنى المنقذ المعدودين أصحاب قلعة شيزر ومن علمائهم وأدبائهم، وقد خلف أسامة ديوانا كبيرا في مجلدين، وعددا من المصنفات الأدبية في فنون مختلفة.
وقد لمع اسم أسامة بن منقذ في زمن الحروب الصليبية، حيث تألقت شاعريته وعرفت فروسيته وبطولته.
وفي أثناء غيابه عن بلدته شيزر- التي اشتهرت بقلعتها المنيعة- أصابها زلزال قضى على جميع سكانها ولم يبق من آل منقذ إلا من قدّر له أن يكون بعيدا عنها، ويبكي أسامة أهله، وبلدته في قصيدة عامرة بالمشاعر الإنسانية والتوهج الشعري، والنفس الأسيانة، ويقول:
حمائم الأيك هيجتن أشجانا
فليبك أصدقنا بثا وأشجانا
ما وجد صادحة في كل شارقة
ترجع النوح في الأفنان ألحانا
كما وجدت على قومي تخوّفهم
ريب المنون ودهر طال ما خانا
إذا نهى الصبر دمعي عند ذكرهمو
قال الأسى: فض وجد سحا وتهتانا
قالوا: تأسّ، وما قالوا بمن؟ وإذا
أفردت بالرزء ما أنفك أسوانا
ما حدثتني بالسلوان بعدهمو
نفسي، ولا حان سلواني ولا آنا
وفاجأتهم من الأيام قارعة
سقتهمو بكئوس الموت ذيفانا
ماتوا جميعا كرجع الطرف وانقرضوا
هل ما ترى تارك للعين إنسانا
لم يترك الدهر لي من بعد فقدهمو
قلبا أجشمه صبرا وسلوانا
فلو رأوني لقالوا: مات أسعدنا
وعاش للهم والأحزان أشقانا
لم يترك الموت منهم من يخبرني
عنهم، فيوضح ما لاقوه تبيانا
بادوا جميعا، وما شادوا، فواعجبا
للخطب أهلك عمارا وعمرانا
هذي قصورهمو صارت قبورهمو
كذاك كانوا بها من قبل سكانا
ويح الزلازل أفنت معشري، فإذا
ذكرتهم خلتني في القوم سكرانا
لم يحمهم حصنهم منها ولا رهبت
بأسا تناذره الأقران أزمانا
أتاهمو قدر لم ينجهم حذر
منه، وهل حذر منج لمن حانا
إن أقفرت "شيزر" منهم فهم جعلوا
منيع أسوارها بيضا وخرصانا
همو حموها فلو شاهدتها وهمو
بها، لشاهدت آسادا وخفانا
كانوا لمن خاف ظلما أو سطا ملك
كهفا، وللجارم المطلوب جيرانا
علوا بمجدهمو سيف بن ذي يزن
كما علت شيزر في العز غمدانا
تراهمو في الوغى أسدا، ويوم ندى
غيثا هتونا، وفي الظلماء رهبانا
حاولت كتمان بثي بعد فقدهمو
فلم يطق قلبي المحزون كتمانا
كانوا سيوفي إذا نازلت حادثة
وجنتي حين ألقى الدهر عريانا
فكيف بالصبر لي عنهم وقد نظموا
دمعي لفقدهمو درا ومرجانا