غالبا ما كان البؤس والحزن يخلق إبداعا، وهذا ما نشهده في روايات الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي ولوحات الرسام الهولندي فينسينت فان كوخ وموسيقى الألماني روبرت شومان، ولعل الحزن نال من الرسام الإسباني بابلو بيكاسو أيضا، وما نعلمه أن الرسام والحزن حينما يجتمعان يلدان إبداعا ناتجا عن مشاعر إنسانية صادقة، وحينما يكون هناك صدق في العمل فبلا شك أن يحظى العمل بالنجاح.

الفترة الزرقاء:

   عقب انتحار كارلوس كاسيغماس سنة 1901، والذي كان صديقا مقربا لبابلو بيكاسو، مر هذا الأخير بفترة غلبت عليها الكآبة، وكان لهذه الأخيرة تأثيرا على المسيرة الفنية لبيكاسو، فاحتل اللون الأزرق لوحاته التي جسدت المآسي والأحزان، وامتد ذلك من سنة 1901 إلى 1904 لتسمى تلك الفترة بالفترة الزرقاء.

لعل أبرز ما خلفته الفترة الزرقاء هي لوحة "عازف الغيتار المسن" والتي قد اعتمد فيها بيكاسو على المذهب التعبيري الذي بدوره يميل إلى تجسيد المواضيع المآساوية بطريقة انسيابية وألوان قوية، ورسم تلك اللوحة سنة 1903، وبسرعة نالت قيمتها وأصبحت من أشهر اللوحات التي عرفها التاريخ.

أينما وجد الفن وجدت الحياة:

   يظهر في اللوحة عجوز تبدوا عليه ملامح الشيخوخة والعجز، وفي الآن نفسه يبدوا منهكا ومتعبا وجائعا، حافي القدمين، ملابس مقطعة، ضعيف البنية الجسدية، كأن الهموم قد رسمت ملامح وجهه الموجه إلى الأسفل، غالبا قد يكون أعمى البصيرة، ومع كل هاته المآسي التي ترافقه إلا أنه يمسك بغيتارة، ومن خلال التأمل في أصابع يديه يبدوا أنه يعزف عليها.

إذن، بعد التحليل المبسط للصورة، نجد أن الفعل الوحيد الذي يبث الحياة في الرجل العجوز هو العزف أو الإبداع، فمحنته بالكاد لم تستطيع التغلب عليه، وسلاحه كان الإبداع، وبإمكاننا أن نضع الإبداع برفقة الجمال في صف واحد، كما يقول دوستويفسكي "الجمال قد ينقذ العالم" حقا قد ينقذه وهكذا أنقذت جمالية الإبداع العجوز.

الفن شكل من أشكال العلاج:

 لطالما كان الفن تجسيدا للقلق الوجودي للبشر خاصة في القرن العشرين حينما انتشرت الأوبئة العالمية والمجاعات والحروب واستخدمت القنابل الذرية وقتل الملايين في لحظات، وفي الوقت نفسه كان الفن وسيلة لخروج الإنسان من عزلته كما كان نتاجا لمشاعر صادقة وتجسيدا للذات ومآساتها، وكان عمودا يسند عليه الإنسان ظهره، ولطالما كان الفن شكلا من أشكال العلاج كما يقول أرسطو.