عندما تبدأ حديثًا عن الزمن الماضي مع أي شخص مهما كان سنه أو فئته العمرية حتى تدرك أنك قد فتحت فيضاناً من الذكريات واسترسالاً في الحديث حتى لأكثر الناس تحفظا، حينما نصادف أو نتحدث إلى من كانوا أطرافاً وشاهدي عيان على الماضي، سرعان ما يتبادل حوار لا يخلُ من كلماتٍ عن الماضي "هل تذكر عندما كنا...أين ذهبت هذه الأيام..ألا ليت الزمن يعود يوماً" والكثير من هذه العبارات، أو تأتي سيرة مكان كنا نرتاده قديماً أو موقف يستدعي الضحكات المصاحبة بدفع الرأس إلى الوراء، والاستغراق في استحضار هذه الأزمنة السابقة قبل أن نقول بمرح مغلف بالأسى “آه، كانت أيام”، فالحنين إلى الماضي هو شيء نراه متجسدا أمامنا كلما ذكرنا شيئًا حدث بالماضي، فحينها يكون الحنين لإحساس وحالة مررنا بها أكثر من الحنين لأشخاص أو لأشياء بعينها. ونكون بحاجة لإيقاظ إحساسنا أو لاستعادة براءة ونقاء أيام ولت ولم يبق منها سوى علامات فى القلب ولمحات تمر فجأة أمام عيوننا لنسرح بعيداً عن ضجيج أيامنا. ويغمرنا ذلك الشعور الغريب عندما نزور البيت القديم الذي شهد أيام الطفولة ،و تلك الرائحة التي لاتخلُ من الذكريات، ذاك الإطمئنان الذي تشعر به عند الذهاب لمكانٍ من الماضي، وتلك الأيام الخالية من المسؤلية و غرفتك القديمة، والصور العائلية، متعلقاتك الشخصية القديمة،زمن الطفولة الخالي من الراحة، عندما كان كل شيء يتمتع بالبساطة وتتمنى لو أنك تستعيد تلك الحياة ولو للحظات حيث الدفء والشعور بالأمان، وتلك الصور العالقة بذاكرتنا بما تحمله من تفاصيل حيث الأصدقاء، والجيران، وأهل الحي، ومدارسنا العتيقة، وأساتذتنا الأجلاء الذين ما تزال صدى أصواتهم قابعة في آذان معظمنا، فبالرغم من جدية وقساوة بعضهم إلا أنهم كانوا يمنحوننا شعور الأبوة الصادقة، وحسّ المسؤولية.
ولكن أحياناً يكون هذا الحنين مؤلم عند تذكر زوال الأماكن التي نشأنا وتربينا وترعرعنا فيها، ذلك الشعور المتداعي بالفقد وعدم القدرة على إستعادة أي من الأيام الماضية ولو حتى عن طريق الذهاب للأماكن مرة أخرى والجلوس فيها أو لقاء الأشخاص مرة أخرى واسترجاع ذكرياتنا معهم، و من أكثر الأشياء التي تجعلنا نشعر بالعجز عن الرجوع لأشياء لم تعد موجودة سوى في أذهاننا يجعل حالة الحنين إلى الماضي تصبح في أوج اتقادها بداخلنا وتوسع من الجراح الناشئة عن غياب هذه الأماكن وهؤلاء الأشخاص الذين تركوا بداخلنا آثارا لا تمحى بمرور الزمن وساهموا في تشكيل شخصيتنا وتكوين رؤيتنا للحياة من خلال المواقف التي شاركونا فيها ومن خلال الأحداث التي عاصرناها سويًا ومن خلال الأماكن التي استطاعت بطبيعتها أن تخلق بداخلنا أشياء لم تكن لتوجد لولا أننا كنا متواجدين فيها في هذه الأوقات مع هؤلاء الأشخاص ومعنى غيابهم يعني أن جزءا من شخصيتك وذاكرتك قد مُحي تمامًا كأنه لم يكن لذلك الأمر في هذه النقطة قد يكون صعباً فعلاً.
فلماذا هذا الحنين إلى الماضي ولماذا هو متجذر في نفوس كل البشر بهذا الشكل:
نحُن هُنا في حالة ” نوستالجيا “…
ففي عام 1948 أخترع الشاعر الإنجليزي "ويستن أودن" كلمة 'توبوفيليا' لوصف شعور الناس عند العودة إلى مكان مميز من ماضيهم، واليوم أكتشف العلماء ولأول مرة هذا الشعور "النوستالجي" في الدماغ باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي. واثبتوا أن الحنين إلى الماضي من خلال استرجاع ذكريات و أوقات مميزة في حياتك أمرٌ مهُم جداً للصحة العقلية للإنسان، واثبتت الدراسات إنها حالة عاطفية يتم فيها استرجاع مشاعر عابرة ولحظات سعيدة من الذاكرة وطرد جميع اللحظات السلبية، وأن نسبة 80% من الناس يشعرون بالنوستالجيا مرة على الأقل أسبوعياً، فهي غالباً ماتشعرنا بالسعادة ولحظات الراحة، "فهي إذاً حالة نافعة وليست ضارة أبداً !.." ولكن الخطر الوحيد الذي يكمن وراء " النوستالجيا" هو أن نقف عندها، أو نفهمها بشكل غير صحيح، فنظل نرتدي نظارات وردية عن الماضي بدلاً من أخذ نظرة تفاؤل عن الحاضر، وتستدعي بالفعل حالة الحنين إلى الماضي هذه ليس من باب عدم رؤية أي إيجابيات في الواقع ولكن مما لا شك فيه أنه كلما مر علينا الزمن كلما عبث بأشكالنا وبأرواحنا وبوجداننا وكلما استطاع أن يسحق شيء ما فينا بالفعل، وهذا ما نستطيع إدراكه بالفعل من خلال رؤية صورة قديمة لنا أو مقطع فيديو لحفلة من حفلات أعياد ميلادنا لنعي تماماً وبشكل واضح وصريح ربما لم يكن ملحوظاً من قبل أن التغيرات التي أضافها لنا الزمن، تجعلنا نأسى لحالنا ونحن إلى الماضي.
لكن و ببساطة أنسب طريقة للتعامل مع "النوستالجيا" وجني فوائدها وتجنب عواقبها هي أن تتذكر ماضيك وتصنع حاضرك ومستقبلك وتكون طرفًا فاعلًا في مستقبل الآخرين، ولا تتوقف عن خلق ذكريات لنفسك تستدعيها في المستقبل، وهذا يوصف بـ "النوستالجيا الاستباقية"، خاصة أن من هم حولنا نتاج ماضينا الجميل وهم حاضرنا ومستقبلنا.. وأننا بقدر إسعادهم سنكون حلماً مبهجاً في ماضيهم الجميل.
الخلاصة.. إن الذكريات جميلة والماضي مبهج، ولكن الماضي لنتذكره وليس لنعيش فيه إلى الأبد لأنه انتهى!.
برأيك ما هو الحنيــن..!؟
هل هو إحساس غامض لا يعترف بالوقت.. ولا بالزمان؟
أم هو عاطفة لاسترجاع التفكير في الماضي المثالي؟
هل هو شعور لانستطيع مقاومته حتى يسيطر على يومنا وحاضرنا أيضاً؟
التعليقات