«لمَّا غَلَا ثَمَني، عَدِمْتُ المُشْتَرِي» ابن سينا.

تجولت مؤخرًا لمدة أربع أيام بين رحاب سيرة «أبن سينا» المثيرة للجدل، وكان ذلك من قراءة رواية قصيرة بعنوان: «فردقان: اعتقال الشيخ الرئيس» لمؤلفها «يوسف زيدان» وهي من إصدارات عام 2018 لدار الشروق المصرية.

الذي يُعد أمير الأطباء في عصره، والمُلقب بـ «الشيخ الرئيس» كنوع من أنواع التشريف لإنجازاته العلمية، حيث أتقن الطب منذ كان في الثامنة عشرة من عمره.

واعتبر كتابه «القانون في الطب» المرجعية الرئيسية لدراسة الطب بجامعات أوروبا إلى القرن السابع عشر. وقد ترجم إلى اللاتينية وظل لعدة قرون متتالية منهلًا يشرب منه الراغبون في دراسة الطب سواء في الشرق أو الغرب.

وكانت آراؤه دومًا محل استهجان واستبعاد في أروقة الساسة، ولم تلقي استحسانًا كبيرًا أيضًا بين الخواص والعلماء. وكان من ألقابه أيضًا «أرسطو العرب»، و«أمير الفلاسفة» و«المعلم الثالث» وأي بعد أرسطو والفارابي؛ وذلك لما أشتهر به من حكمة.

وقد عانى «أبن سينا» من الكثير من اضطرابات السياسة وتقلباتها، فكان حينًا من المغضوب عليهم، وحينًا من المقربين المحتفى بهم. إلا أنه لم ينشغل بذلك أبدًا عن البحث والدراسة والإنتاج الفكري.

وبالعودة إلى حديثنا عن الرواية، سنجد أن أحداثها تدور بشكل أدبي يمتزج فيه الواقع بالخيال الروائي عن الصعود والهبوط في حياة «ابن سينا»، الطبيب العبقري.

فنجد أن المؤلف هكذا إستهل الرواية:

بملل، مالت شمسُ النهار الشتوي القصير متباطئة.

وهكذا ختمها:

ومات ابن سينا وحيدًا، وخلد للأبد، وخسر في سبيل الخلود أعز أمانيه.

أعتقال الشيخ الرئيس:

تلقي الرواية نظرة على الحالة السياسية لعصر «ابن سيناء»، من الخلافات و الفرقة بين أبناء المذهب الواحد، وتغيب واسكات صوت العلماء و المثقفين، في ظل واقع سياسي ممزق.

ذلك الواقع الذي عاشته الأمة الإسلامية؛ بسبب ضعف الدولة العباسية، وتمزقها لدويلات ذات سيادة إمّا تابعة إسمًا للدولة وإمّا منفصله كلية عنها، خلال الفترة التي إنشغل فيها الفئات المتناحرة من المسلمين بإعتلاء سدة الحكم ولعبة العروش المنبثقة من أطماعها.

وتركز على فترة اعتقاله وإيداعه سجن قلعة «فردقان» الموجودة بوسط إيران، في الوقت الحالي، حيث أحسن استقباله وضيافته آمر القلعة «المزدوج» واتخذ منه صديقًا وطبيبًا لعلل جسده وأجساد المرضى في تلك الناحية الغامضة والمقطوعة من القلعة، وسهل له ممارسة نشاطه، واستكمال تدوين كتابه، وأخذ كل منهما يسرد حكايته على الآخر.

فمن خلال المنفى في «فردقان»، يعود بنا المؤلف «يوسف زيدان» لماضي بطل الرواية «ابن سينا»، ابتداءً من مولده سنة 370 هجرية، في أسرة مكونة من أب أفغاني وأم خوارزمية (حاليا أوزبكستان).

فيسرد لطفولته في بخارى، وحياته في منطقة وسط آسيا، وبداية نبوغة في الطب، وثم سفره وعلاجه لأمراء وفقراء زمانه. ثم استقراره في المنطقة الفارسية؛ ليحكي ما عاشه من ويلات في زمن الحروب والصراع على الحكم والدمار، حيث عاش النصف الأخير من حياته بين الري (طهران حاليًا)، وهمذان، وأصفهان، ثم نرجع مرة أخرى ليوميات في معتقل فردقان، ومن ثمّ إلى نهاية حياته البائسة.

ليست الأولى ولا الوحيدة:

أحداث الرواية عادية، ولا يوجد فيها ما يبقيك مشدودًا لها، .هذه ليست رواية بالمعنى المعروف، بل سرد لأحداث و ووقائع تاريخية لصراع علي السلطة في منطقه أفغانستان الحالية أو قديمًا بخاري و همذان و الري وغيرها.

لا داعي للتذكير بأن لغة «يوسف زيدان» فصيحة وجميلة بحقّ، وبديعة المفردات مكثفة في المعنى، و لا تخلو من ذلك الوقع الموسيقي المعتادة بكتاباته.

وكان انتقاله من زمن إلى زمن سلس حتى لا تكاد تشعر به، وأن النص جميل وعبقري، وأن الرواية تستحق القراءة فعلًا، ولكنها قد لا تعجب الكثير ممن لا يحب السرد التاريخي.

كما إنه استخدم التلميحات والاسقاطات السياسية ليعبر عن رأيه الشخصي في عباءة «أبن سينا»، خاصة الجزء المتعلق برأيه في الحاكم «محمود الغزنوي» وسياسات العسكر، وهو الرأي الذي ردده المؤلف في أكثر من موضع.

غير أن المؤلف -في رأيي- لم يأتي بجديد، فالرواية مشابهة لعمل الكاتب الفرنسي «حليبيرت سينويه» بعنوان «ابن سينا/أو الطريق الى أصفهان» والتي تناول سيرة ابن سينا منذ نشأته حتى وفاته.

كما أن هُناك رواية أخرى حملت اسم «الرئيس» وتحدّث أيضًا عن «ابن سينا».

«فردقان» Vs «عزازيل»:

شئنا أم أبينا فإن مقياس «زيدان» أصبح «عزازيل» فهي العقبة التي وضعها «يوسف زيدان» أمامه لبقية عمره. الكل وانا منهم نكيل كل ما كتبه بمكيالها،

لذا لا أنصح بمقارنة «فردقان» بـ «عزازيل»؛ لأنه لا يوجد مثيل يضاهي «عزازيل» بعد، ولا يوجد أفضل منها بعد.

باختصار، يؤخذ على رواية «فردقان: اعتقال الشيخ الرئيس» أنها قصيرة، غير إنني مازلت أنصح بقراءتها، كونها تلقي الضوء على مناطق نائية في تاريخ الفكر العربي، والصراع المذهبي، الذي لم يحصد الأرواح فقط، ولكنه تسبب في فقدنا جزء كبير من الانتاج الفكري لابن سينا وغيره الكثير...