راوتر شيخ البلد هو عنوان مجموعة قصصية بقلم الكاتب عاطف عبيد صاحب مؤسسة بتانة الثقافية، منذ أسبوعين أو ثلاث تقريباً أخبرنا الأديب مصطفى البلكي على جروب الواتس آب لنادي القصة بأسيوط أنه آتياً من القاهرة، ولديه مجموعة كتب مهداة لنا من الكاتب عاطف عبيد، ولم يتسنى له الحضور حتى كان موعد مؤتمر نادي القصة الحادي عشر النزعة الصوفية في الرواية العربية؛ فقدم لنا الكتب قبل المؤتمر، وفوجئت أنها مهداة بتوقيع يحمل اسم كل منا بشخصه على الصفحة الأولى من المجموعة.

وعلى الرغم من عدم معرفة الكاتب الشخصية بنا وبأسمائنا، بي على الأقل، وأغلب الظن أن أ. مصطفى البلكي هو من أخبره بأسمائنا إلا أنها كانت لفتة كريمة تدل على الاهتمام، والمودة التي حملها الإهداء.

التجربة الذاتية التي تحملها مجموعة قصص راوتر شيخ البلد:

على الرغم من تأكيد الكاتب عاطف عبيد على خيالية قصص المجموعة في تقديمين متتاليين قبل البدء إذ يقول في الأول منهما أن القصص كلها من خيال المؤلف، ثم يعود ويؤكد على القارئ في التقديم التالي ألا يبحث عن القرية المذكورة في قصص مجموعة راوتر شيخ البلد على خرائط جوجل؛ لإنها خرابيشه هو بما يوحي ألا وجود لهذه القرية في الواقع، إلا أن مع أول قصة في المجموعة "نظارة طبية" والتي يحمل بطلها اسم عاطف ويحكي عن نفسه واقعة اكتشافه وأهله ضعف نظره في بداية حياته الدراسية ووقع ذاك الخبر عليهم.

من هنا يبدأ الشك يتسرب إلى القارئ من أن بطل القصة هو ذاته الكاتب، خاصة عندما ينهيها بأن الطفل بطل القصة يجمع أطفال القرية؛ ليحكي لهم قصة يوسف وامرأة العزيز، بما يشي أن ذاك الطفل سيكبر ليكون حكاء، وبعد عدة قصص تعود قصة "البغل" لتستكمل لنا ما حدث لعاطف الطفل تالياً بعد اكتشاف ضعف نظره الذي يقف عائقاً أمام تفوقه الدراسي، وتتوالى قصص مجموعة راوتر شيخ البلد لتقربنا من عالم الكاتب عاطف عبيد أكثر، وتؤكد عليه تهمة الكتابة الذاتية التي أعشقها.

ففي احدى قصص المجموعة تتهمه سعدية أنها كانت أشطر منه في كتابة موضوع التعبير في المدرسة لولا أن أهلها أوقفوها عن التعليم لتعمل في الغيط، مما يحمل تندراً منها أنها ربما كانت ستصبح كاتبة أفضل منه لها وضعها في القرية مثله الآن لو أتيحت لها الفرصة لإكمال تعليمها، تليها قصة "جلابية فلاحي" والتي تمثل متوالية مع قصة "سعدية" والتي يصرح فيها الراوي بوظيفته كاستشاري نظم معلومات، وهي الوظيفة الأصلية التي يعمل بها الكاتب عاطف عبيد.

وتتوالى قصص مجموعة راوتر شيخ البلد؛ لتحمل لنا ليس فقط لمحات من حياة كاتبها وإنما مشاهداته في القرية على مر السنين منذ كان طفلاً لا يغادر حدودها حتى أصبح زائراً عليها تمضي السنون ولا يأتيها؛ فيفاجأ بتغييرات حداثية تصدمه بعالمها البريء الذي اعتاده من قبل.

الكتابة بين الذاتية والخيال:

لا تعني التجربة الذاتية التي حملتها قصص المجموعة أن كل قصصها هي من الواقع البحت ولا خيال فيها؛ فهذا أمر أظنه محالاً، واقع الأمر أن كثير من القصص تحمل أحداثاً لا أظن أنها وقت حقيقة، وإنما خيال المؤلف هو ما يعمل على دمج الواقع بالخيال ليخرج منه نتاج أدبي ممتع، وفي رأيي لا تعني الكتابة الذاتية أن تكون تسجيلاً تقريرياً صرفاً للواقع دون أي لمسة إبداعية من الأديب، كما فعلت الكاتبة الفرنسية آني إرنو مثلاً.

فعلى الرغم من حصولها على جائزة نوبل في الأدب بحيثية شجاعتها في التعبير عن الذاكرة الشخصية، إلا إنني وجدت أغلب ما كتبته كان تقريرياً جافاً يخلو من أي أسلوب أدبي، في حين فعل جمال الغيطاني أمراً مشابهاً في كتابه التجليات، وكان الأمر ينضح بأدبية رائقة مازجاً الواقع وما حدث فيه فعلياً بخيالاته ورؤاه الخاصة التي لم تقع على أرض الواقع؛ ليخرج لنا عملاً أدبياً متماسكاً ورائقاً يحمل رؤى وأفكار فلسفية مع أسلوب أدبي ممتع.

صراع قرية الكاتب عاطف عبيد للحاق بركب الحداثة:

وهذا يبدو جلياً في قصص مجموعة راوتر شيخ البلد، ومثال ذلك القصة التي حملت المجموعة عنوانها؛ فلا أظن الحدث إن كان واقعاً فقد جرى كما صوره الكاتب عاطف عبيد في القصة، وإنما لا بد وأنه أخذ موقفاً عابراً وطوره في خياله حتى خرج بهذا النص؛ ليصور لنا تكالب أهل القرية على تلك الحداثة المزعومة حتى وإن كان في هلاكهم وانتهاك خصوصيتهم، بما تحمله القصة من إسقاط أيضاً على الوضع العام من تهالكنا على السوشيال ميديا وموافقتنا على كل بنودها التي تنتهك الكثير من خصوصياتنا، وتقوم بالتجسس علينا في سبيل الاحتفاظ بحساباتنا الشخصية عليها.

ولم يكن هذا صراع القرية الوحيد مع الحداثة؛ فقد بدأ الصراع منذ زمن طويل مع أول دخول للتلفزيون في القرية في قصة "بابريكا"، وصراع المقاهي وروادها بين أصالة المقهى البلدي في حضن القرية، والمقهى المتفرنج على حدود القرية، في حين مالكات المقهيين لا يعبأون بصراعهم ذاك، ويحتفلون كل شهر بصداقتهما وأرباحهما التي يحصلون عليها من جيوب المتصارعين، وحتى استخدام الدراجة في القرية على مر السنين ناله من الحداثة ما ناله، فبعد أن كانت مجرد وسيلة مواصلات للتنقل بها بين القرى أصبحت وسيلة حداثة محاكاة للغرب؛ فنظم أهل القرية مارثون دراجات!

ويظل الصراع مستشرياً في قصص مجموعة راوتر شيخ البلد، والحداثة تطول كل شيء حتى تصل لتعشير الجاموس، وتنتهي في آخر سطورها بتفضيل الرجل الأرمل باقة اليوتيوب كونس له عن زوجة جديدة عوضاً عن زوجته الراحلة!

تصنيفي لمجوعة راوتر شيخ البلد:

وفي النهاية كانت رحلة ممتعة لي بين طيات المجموعة، لم أتمكن من تركها حتى أنهيتها، بما تحمله من طرافة وسخرية من واقع مزري وتماس معه، وقصص تتراوح طولاً بين عدة أسطر لبضع صفحات، ولكن يمكن اعتبارها متوالية قصصية مترابطة جميعها، فبعض الشخصيات يتكرر ظهورها في أكثر من قصة بمجموعة الكاتب عاطف عبيد، وهذا أمر يذكرني برواية البصيري للكاتب محمد جبريل، والتي كنت قد قرأتها من فترة قريبة، وذكرت في مراجعتي لها أنني لم أراها كرواية.

وذلك إذ كانت أحداثها منفصلة ولا يجمعها رابط واحد، وإنما كان الرابط الوحيد بين الفصول التي رأيت أن كل فصل منها هو قصة قصيرة منفصلة بذاتها، أنها تدور جميعاً في نفس المنطقة وهي حي البوصيري بالإسكندرية، وقد تتكرر بعض الشخصيات أو تختفي تماماً، ولكن يظل المكان هو المسيطر الوحيد على كل القصص، وهنا في مجموعة الكاتب عاطف عبيد التي تحمل عنوان راوتر شيخ البلد؛ فإن البطل فيها الذي يجمع قصصها برابط واحد هي تلك البلد.

وأيضاً ذاك الراوي الذي خرج من بين أحضانها ليحكي لنا قصصها، كما جمع يوماً فيها رفاقه من أطفال القرية؛ ليحكي لهم قصة يوسف وزليخة ونسوة المدينة وسكاكينهن.

#راوتر_شيخ_البلد للكاتب #عاطف_عبيد

#جولة_في_الكتب #مجموعات_قصصية

#مقالات #سارة_الليثي