بسم الله الرحمن الرحيم

مقتطفات من كتاب (فن التفكير)

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:

كتاب (فن التفكير), تأليف: أرنست دمنيه, ترجمة: رشدي السيسي, راجعه: مصطفى حبيب, الناشر: مؤسسة سجل العرب 1967.

1-       (... وأي شخص متصل بالريفيين ويألفهم, حتى أقلهم تثقيفاً, يعرف أنهم ممن يستهويهم جمال فطري, منظر طبيعي, آخر بسمة يفتر عنها ثغر الخريف لغابة ما, غروب الشمس, مروق طائر بري, كما يستهوي فناناً أصيلاً أو شاعراً محترفاً, وكل ما يعوزهم هو الألفاظ, أو في الأرجح, هو الثقة, ويؤثر الكثيرون منهم عدم التحدث عما يضطرم في أعماقهم من ضروب الحب كما يؤثرون عدم تغيير لهجات حديثهم). الصفحة (48).

2-       (وكثيراً أيضاً ما نسمع, عقب هذا الاعتراف الآتي من الأغوار شعوراً أكثر استبشاراً يغمغم قائلاً: (إن أسلوب حياتي يصعب تغييره, أعلم ذلك, بيد أني إذا حاولت القيام بأي جهد, كأن أتقدم خطوة واحدة وأقول لنفسي: (منذ الآن فصاعداً لن يكون حديثي ضرباً من الهراء قط, ففي لحظة أستطيع أن أخرج من قطيع غير المفكرين لأصبح واحداً من القلائل الذين يقودون هذا القطيع) وقد تكفي أتفه الأشياء, كطنين ذبابة أو اصطفاق باب, لتشويش هذه الحالة الذهنية وإعادة الأفكار العادية بكامل قوتها, ولكن لا يقل عن هذا في صدقه القول بأننا, خلال دقائق قليلة, انفصلنا من حياة عقلية رفيعة برؤية أدركنا أنها كانت في متناول يدنا, وبجهد لم يبد أنه مصدر للإرهاق.

كل هذا يرقى بنا للقول إن لدينا اعتقاداً فطرياً بوجود فن للتفكير.... وبعض الناس حائزون عليه والبعض الآخر غير حائزين, ولكن على هؤلاء الأخيرين ألا يلوموا سوى أنفسهم). الصفحة (52).

3-       ( (ذاكرتي ضعيفة.... تعوزني المثابرة... ما جدوى ذلك؟.... فلان وفلان يستطيعان هذا ولكني لا أستطيع)... كل هذه الهواتف الصغيرة المثبطة للعزم هي ما اعتادت شخوص قصص الآنسة أوستن أن تسميها (هواجس الاكتئاب) وهي ليست أفكاراً سوداء بل زرقاء قاتمة, كما أنها ليست بالضبط انحصارات, ولكنها معوقات طفيلية, تندفع برمتها لتهاجم أي عمل إرادي ناشئ محاولة تحطيمه والقضاء عليه؛ فإذا انبرى للقتال متثاقلا لرغبته في أن يصبح عزماً وطيداً كرت الأشباح المعادية راجعة وقد ازداد عددها سبعة أضعاف وراحت تجدد هجماتها حتى ترسخ دعامة عقدة النقص: (لا أستطيع أن أفعله, لا يمكن فعله!) ). الصفحة (61).

4-       (وبعض الناس, الذين يفكرون في حرية وبطريقة جذابة عندما يتحدثون, يبدون وكأنما قد وضعوا عقولهم في قفص خانق, حين يشرعون في الكتابة وقد اعتاد أذكى رجل عرفته في حياتي وأسرعهم بديهة أن ينتج خطابات فجة مملة, يعكف على كتابتها ساعات وساعات, وثمة زميل سابق لي اقتصرت دراسته وميوله على الأدب فقط, أبدى على الرغم من ذلك, اهتماما بالفلسفة, ودون أن يقرأ لأي فيلسوف راح يتحدث بإفاضة في المشكلات الأساسية, بأصالة تثير الدهشة, وقد اعتاد زميل آخر أن يدعوه (روبنصن كروزو الفلسفة), وكل مرة كان يضطر فيها هذا العبقري للكتابة, تضائل وتهاوى عائداً إلى حالة العقل التي اعتاد أن يكون بها, قبل ذلك بأعوام, حين كان يتقدم لتأدية الامتحانات بالسربون؛ فأصالته في الفكر أو التعبير أفزعته, ونتائج جهوده, أو ينبغي أن أقول لعلها عذاباته, كانت صفحات باردة معقدة, تعيد إلى الأذهان مقدمات المراجع اللغوية للطلبة ). الصفحة (69-70).

5-       (والأطفال الصغار يفهمون الرجال والأشياء دون أي وسيط, ويكون أول انطباعاتهم عنهم قويا إلى حد لا يحتاجون معه للعودة إلى مصدر الانطباع الرئيسي, ولهذا يقع كثير من الآباء في الخطأ إذ يرفضون التسليم بما للطفولة من قوة الملاحظة؛ وحوالي السنة العاشرة تصبح الأشياء مختلفة, فيتعرف الأطفال على المتقدمين عنهم في السن ويحاكونهم؛ وفي شهور قليلة, وأحيانا في بضعة أسابيع, تستطيع ملاحظة التغيير: رجل صغير, امرأة صغيرة, حركات مسنين, ضروب سلوكية معينة في النطق أو التعبير اللفظي, ظهور اهتمام مزيف بأشياء معينة أو عدم اكتراث متعمد نحو الآخرين, وقد لا يبدو التصنع على تعبير الوجه, ولكنه يكف عن أن يبدو طبيعيا بريئا, والغلمان أكثر ميلا للظهور بمظهر الخشونة والاستهانة بكل شيء – وأحياناً يكونون أسوأ من هذا إذا تصادف وجودهم في بيئة حوشية... ). الصفحة (73-74).

6-       (... بيد أن التأثير المتواصل غير المرئي للوعي الجماعي يسفر عن النتائج ذاتها, ولقد استرعى نظري بضع مرات في أمريكا أن وجدت المستوطنين من بني جلدتي يظهرون ضد الزنوج نفس التحامل الذي يملأ الأفق من حولهم والذي لم يكن لديهم أية فكرة عنه قبل هجرتهم؛ وليس هنا تكلف أو ادعاء, فالمعاشرة في كل درجاتها تجعل التفكير الفردي, أي التفكير الحقيقي الوحيد, عقبة كأداء). الصفحة (77).

7-       (والآن دعنا نتذكر صبينا الصغير, في التاسعة أو العاشرة من العمر, ملهما حتى ليحسده فطاحل الشعراء, ومفعما بحب الاستطلاع الفاحص حتى لتعجز الفلسفة عن ملاحقة أسئلته؛ ما الذي يؤول إليه أمره حين يغادر المدرسة ؟ في أمريكا يصبح شاباً قوياً فارع العود, كله عضلات ورغبات, أما في فرنسا فيصبح شابا نحيلا, كله ذهن وغير معد للحياة على الإطلاق, معرضاً للعجز عن التمييز بين الأفكار والحقائق وبين الألفاظ والأفكار, وكل منهما قد نال تعليمه, وكل منهما قد نال سانحته, وسيظل الأمريكي دائماً سيء الإعداد ! مليئاً بالثغرات العقلية, مذبذباً بين الثقة والتهيب دون تستر أو خفاء. أما الفرنسي فستسربله غلالة من التكلف والتصنع ما لم يخلصه دينه أو حبه لوطنه أو أي دافع نبيل آخر, فكل من الرجلين ستستبد به أفكار بيئته دون أفكاره الخاصة, والتعليم الذي لن يجدي فتيلا ما لم يكن فنا تجريبياً للتفكير سيكون محط اللوم لهذه النتيجة). الصفحة (97-98).

8-       (وليس في مقدورنا أن نفصل العزلة والحرية والفراغ عن مفهومنا للحياة المكرسة للفكر: فسبينوزا في حجرته الواحدة حيث قامت الرتابة المختارة بعناية لعمله اليدوي في التأثير عليه مقام حياة الدير الرتيبة في التأثير على الدارس البندكتي؛ وديكارت في ارتحاله عن باريس إلى إحدى ضواحي لاهاي النائية الهادئة, وبوسيه في اعتكافه كالناسك بالكوخ الذي في أقصى حديقته؛ وباستير أو أديسون بمعاملهما المحرمة على غيرهما؛ والرهبان المتعلمون في أديرتهم؛ والحكماء في عزلتهم الظليلة في إحدى قرى ماسوشتس، والفنانون في محاولاتهم الدائمة لتكوين مستعمرات مكرسة للعمل الخالص المبرأ من الغرض: جميعهم يظهرون لنا صوراً من نوع الوجود الذي يخيل إلينا أنه ملائم؛ فالحياة الاجتماعية التي يزاولونها تهبط إلى الحد الأدنى... بل إن رشفة يتناولها المرء, بين الفينة والفينة, من النشاط المسرف لهي جرعة مقوية, ولكن ينبغي ألا يكون التواصل الاجتماعي أشد ربطا مما يحدث لنا مع الحارس الذي يحمينا خلال الليل ). الصفحة (100).

9-       (الضياع الهائل:

من المفروض أن تكون المطالعة عونا للتفكير, فالإنسان الذي يقرأ يستعير ببساطة أفكار إنسان آخر, وهذا يعني نزوع متعطش للتفكير, ومعروف أن ندرة الكتب تصل إلى حد الصوم العقلي, ويقول بيكون إن المطالعة تصنع إنساناً مليئاً, وبينما كان دانجو يتناول الغذاء يوماً على مائدة الملك لويس الرابع عشر أجابه عن سؤال وجهه إليه بالرد التالي: (إن المطالعة تصنع لعقلي ما تصنعه لحوم دجاجاتك الشهية لوجنتي). الصفحة (103-104).

10- (وقد لاحظت صبيانا قلقين وقد بدا عليهم الضجر بينما كان المدرس يقرأ على الفصل كتاباً ممتعاً, وعلى النقيض من هذا كانوا يجلسون وقد بدا البشر على وجوههم حين يأخذ عمل كل يوم الممل المنهك مجراه العادي, كانوا يبغضون الكتاب الذي يحوي من المتعة ما يكفي لصرفهم عن التفكير في شيء آخر؛ ولكنهم لم يهتموا أو بالأحرى أحبوا العمل الرتيب الممل بما يكلفه من أدنى جهد وما يهيئه لخيالهم من الحرية). الصفحة (122).

11- (وينتج الاهتمام من أي نوع من أنواع التركيز الذهني بالسليقة ودون عناء, فالأنانيون من الناس يركزون تفكيرهم على منافعهم الخاصة العاجلة, أما المثاليون فعلى فكرتهم... ). الصفحة (124).

12- (وعلى العموم فإن التركيز الذهني حالة طبيعية يمكن تهيئتها في يسر بوسائل بسيطة, ويتوهم بعض الناس أنها غير مألوفة لسبب واحد وهو أنهم لا يحاولون, وفي هذا الشأن, كما هو الحال في شئون أخرى كثيرة, يموت الجائع والخيرات مكدسة على قاب قوسين أو أدنى منه, ولم يفشل قط في المحاولة أولئك الذين أقدموا عليها ولكنهم خبروا الفشل في أنفسهم أحيانا. وقد يفصحون عن شكواهم قائلين (لست أجد سوى أفكار عادية).

(أجل, ولكنها أفكارك الخاصة, ومن الأفضل أن تنتج أفكاراً عادية, على ألا تنتج إطلاقاً) ). الصفحة (132).

13- (أتعرف كيف تجمع شظايا الوقت وأشتاته لئلا تضيع هباء؟, أتقدر قيمة الدقائق؟, كان لرجل من أسرة لمواينو زوجة اعتادت أن تتركه دائما ينتظرها بضع دقائق قبل العشاء الذي كان يقدم آنذاك في وضح النهار في الساعة الثالثة؛ وبعد حين ساورته فكرة بأن في استطاعته أن يكتب ثمانية أو عشرة سطور خلال هذه الفترة, ومن ثمة أعد ورقا ومدادا لهذا الغرض في مكان مناسب ومع مضي الزمن – فالأعوام قصيرة ولكن الدقائق طويلة – كانت الثمرة بضع مجلدات من التأملات الروحية. إن الجنس البشري يمكن تقسيمه إلى السواد الأعظم من الناس الذين يمقتون أن يتركوا منتظرين لأن الانتظار يصيبهم بالسأم والملل, والقلة السعيدة التي تؤثر هذا الانفراد لما يوفره لها من وقت للتفكير, ولا مشاحة في أن الأخيرين يقودون غيرهم جميعا ). الصفحة (134).

14- (ومن المستحيل أن تقضي ساعة في حجرة مع رجل مشرف على العظمة دون أن تنالك عدوى التفكير ذي السمات المتميزة؛ وليس من الميسور دائماً وجود مثل هؤلاء الناس, أو لعل فرص التقائنا بهم محدودة؛ بيد أن في استطاعة أي امرئ, على قسط متوسط من المعرفة بتاريخ الشعوب أو الأدب أو محبة البشر أو الفن, ناهيك عن تاريخ عظماء المتدينين أو القديسين, أن يعمر مخيلته بمجموعات من القوم المتفوقين في كل حدب وصوب؛ وسأنتهز فيما بعد فرصة لأبين كيف نستطيع استدعاء أي عظيم من الناس لننعم بصحبته حين نحس وحشة الانفراد, ولكن ساعاتنا الجادة لا يتيسر تكريسها لمهمة أكثر نفعا من دراسة حياة أو أفكار عظماء الرجال ). الصفحة (149-150).

15- (وإذا كنت غير قادر, في أي لحظة, أن تسمي رجلا عظيما له, أو كان له حديث, أثر على سلوكك, فتصدر بذلك الحكم على تفكيرك ووجودك بأنهما من الصنف (العادي) ). الصفحة (151).

16- (التسامي الخلقي شرط التفكير الرفيع:

يقول فوفنارج: (تصعد الأفكار العظيمة من القلب) ويقول جوبير: (إن القلوب التي يعوزها الدفء, يعوزها النور). الصفحة (152).

17- (وإذا أردت استخدام الكتب كحافز للتفكير, فلزام ألا تكون كتباً لمجرد التسلية أو لتهيئة عقلك للنوم, بل أن تجعله, على عكس ذلك, ساهراً متيقظاً.

وماهي تلك الكتب؟.

ماهية هذه الكتب أنت أفضل من يعرفها, أما أنا فلا أعرف عنها أي شيء, فالكتاب كالمنظر الطبيعي, حالة من الإدراك الوجداني, يختلف باختلاف القراء؛ فقد يوجد كتاب ما, أو نبذة, أو مقال في موسوعة للمعارف أو قصاصة قديمة من صحيفة يومية دفعتك للتفكير يوماً ما؛ ويحتمل جداً أن تكون واحدا من أولئك النادرين الذين تكفيهم بضعة أسطر مكتوبة غذاء للفكر, لأن أفكارهم على حد قول لا مارتين, تفكر نفسها ). الصفحة (157).

18- (وموضوع إمعان التفكير, بوجه عام, هو دائماً اكتشاف شيء مرضي للعقل لم يكن هناك في مستهل البحث؛ ولا يوجد فرق أساسي بين هذا الاكتشاف والاختراع العلمي؛ وقد سأل أحد الناس نيوتن قائلاً: , (كيف اكتشفت قانون الجاذبية؟) فجاءه الرد: (بالتفكير حوله كل الوقت) ). الصفحة (191).

19- (وإنه لمن الخطورة أيضاً وضع أولئك الرجال على حامل وتقديس شبح مذل في هيئتهم, وقد بولغ في تقدير رجال الأدب والشعراء وكاتبي الدراما ورجال الفن من جميع الأنواع منذ أن حول أحدهم, وهو ديديرو, قدرة العقل القوي بأكملها إلى انتشاء موهبتهم, فلم يكن من الصالح لرجل مثل فكتور هيجو, أو لرجل فوق الكل مثل إسكندر ديماس, أن ينصب نبياً لجيله, وهكذا خلق من كل منهما شبح, أقوى منهما, دان له الجميع بالطاعة ). الصفحة (216).

كتاب (فن التفكير), تأليف: أرنست دمنيه, ترجمة: رشدي السيسي, راجعه: مصطفى حبيب, الناشر: مؤسسة سجل العرب 1967.