بين أكناف الروبوتات يقف الإنسان متسائلاً حول مصيره، هل سينتهي العالم البشري في اللحظة التي يصبح فيها الرجل الآلي قادراً على إتمام كل المهام البشرية؟ ثمّ يتنبّه، فلا آلة يمكنها أن تملك قلباً يضخّ شعوراً كما يفعل هو، هذه هي ميزته الحقيقية: الشعور. لكن إلى أيّ درجة قد يتيه الإنسان في ميزته الباقية؟ 

يشهد العالم الحديث حركات إحياء للمشاعر والإنسان العاطفي، فنحن ننقّب لا عن السعادة فحسب وإنما عن كلّ الانفعالات الإنسانية المفاجئة، عن الفيلم الأكثر تأثيراً، والرواية الصادمة التي أبكت الملايين، والتجارب المفعمة بالأدرينالين، نزور المتاحف القديمة بحثاً عن الاتصال بالماضي والشعور بالحنين، نذهب إلى مدن الملاهي لنستشعر الخوف اللذيذ.. لا نترك شعوراً ينسلّ منا دون اختباره، نريد أن نتلمّس كلّ ذبذبة، ونعيش كلّ تجربة ممكنة.

حتى المجتمع الاستهلاكي بدأ في مخاطبة الإنسان الحساس "أموسنتيانس Homo sentiens" فهو يعدنا ب"موجة من المشاعر الجديدة" عند شرائنا ألبسة معينة، وخريطة إلى "جميع الأحاسيس" إن حصلنا على المنتج الفلاني. 

هذه العودة للإنسان العاطفي قد تمثّل ردّ فعل إيجابي ينهي ما خلّفته المبالغة في العقلانية من آثار، لكنها قد تؤدي أيضاً إلى المبالغة في المشاعر العاطفية الانفعالية وترك الأحاسيس والتأمل وقدرة الإنسان على العيش بهدوء والاستمتاع بغروب الشمس أو ضحكة طفل لخلوّها من الدفقة الشعورية هائلة التأثير.

يمثّل هذا الإحياء للعاطفة الراقدة العجز الذي يشعر به الإنسان المعاصر، بين فقدانه السيطرة على حياته الخاصة من جهة وعدم قدرته على خوض الاحتجاجات السياسية. فالشباب محتاج للحركة؛ جيل الستينات كان يملّ فيثور ويحتجّ وتحتدم الحركات السياسية، بينما جيل اليوم لا يملك خياراً - سهلاً- مشابهاً، لا أمل لديه في التغيير وفي قدرته على التأثير في العالم، لذا فهو يحوّل تلك الطاقة الثائرة إلى داخله حتى تتراكم وتتحوّل إلى شعور، ورومانسية. 

الهروب إلى الحياة الداخلية و"حياة الروح" ليست جديدة على التاريخ، فالجيل الرومانسي الذي نشأ في فرنسا نهايةَ القرن الثامن عشر كان ناجماً عن توالي الإحباطات على الشعب الفرنسي بعد سقوط نابليون وهزيمة فرنسا عام 1870 وهزيمة واترلو، لذا حوّلوا رغبتهم بالانتقام والثأر -العاجزين عنه في الحقيقة- إلى طاقة حسيّة رومانسيّة، وإن كانت تميل إلى كونها عميقة ولبقة لا انفعالية كالتي نشهدها اليوم لكنّ عالمينا العاجزين يتشابهان. 

ليست المشكلة اليوم في حضور الشعور وسيطرته على العالم بل في جودته؛ في حكم المشاعر الانفعالية على التأملية والبحث عن كلّ ما يمكنه ضخّ الأدرينالين فينا وكلّ ما يمنحنا القدرة على الاهتياج الشعوري المخدّر للحواس. 

على الإنسان ألّا يخاف من اللحظة التي يتحوّل فيها شعوره بالحبّ المتّقد إلى الحبّ الساكن الهادئ، وأن يُحيي قدرته على التأمّل ورؤية الجمال كما هو والإحساس به دون سعي حثيث لتجربة مشاعر استثنائية لها ذروة تستحيل سراباً بعد انتهاء الحدث، ليحصل على ما وجد الإحساس لأجله: السَكن والاستقرار.