لا يعدم قارئ أعمال الروائي الكبير ميلان كونديرا من ثنائياتٍ ثلاث اعتدنا عليها في رواياته وهي: الجدّ والهزل، الألم والسخرية، البساطة والعمق. يتجلى ذلك في أفكار رواياته أولاً وفي أسلوب معالجة الفكرة ثانياً.. وروايته الأثيرة البطء تتّحد فيها جلّ هذه العوامل لنكون أمام نوفيلا رائعة لا يقدر عليها إلا كل قارئٍ مكين ومعتادٍ على أسلوب الكاتب العظيم كونديرا. وإليكم هاتِهِ الملاحظات حول الرواية:
تبدأ الحكاية عندما قام زوجان برحلةٍ نحو قصرٍ أثري وهما يقودان سيارتهما ببطءٍ واستمتاع، بينما تحاول سيارةٌ أخرى مسرعة تجاوزهما بأي سبيل، من هنا يحاول كشف الكاتب ثمية روايته وهي المناظرة بين ميزة البطء وأفضليته على السرعة، ثم يزاوج بين حكايتي حب إحداهما كانت في القرن الثامن عشر حيث شأن الحياة أن تكون خاملةً بطيئةً رتيبة، وقصة حب أخرى تجري أحداثها في القرن الحالي زمن الآلة التي اعتبرها الكاتب شرطاً إنسانياً ذميماً في هذا العصر!
في فحوى الرواية مديحاً للبطء الذي يجده الروائي كونديرا سبباً لللّذة والتمتع بمباهج الحياة، ويشنّع على السرعة وأصحابها ويعدّها كالنشوة عظيمة الأثر وسريعة الزوال تماماً كمن يركب عربةً يجرّها حصان ومن يركب دراجةً ناريةً مسرعة. وقد استخدم الكاتب هذا المثال بالفعل في متن روايته جاعلاً من العلاقة الحميمة معياره الأساس في تناول النقيضين: العجلة والتروّي.
ينصرف الكاتب إلى فكرةٍ أخرى غير بعيدٍ عن رسالة العمل وهي إيجاد علاقةٍ تربط السرعة والبطء بالذاكرة والنسيان ويقترح معادلةً مفادها أن درجة البطء تتناسب طرداً مع قوة الذاكرة، وتتناسب السرعة طرداً مع سرعة النسيان وكلّه ضمن سياقٍ يجعل فيه الروائي أطروحته ضرباً من الاستنتاجات التي يتوصّل إليها القارئ دون أن يتلقّاها تلقياً مباشراً.
رغم أنّني لا أقرأ لكونديرا بلغته التي يكتب بها، لكنّي أستطيع تمييز بصمته الأدبية منذ الصفحة الأولى على اختلاف أساليب المترجمين، وهذا سرٌّ من أسرار الإبداع الذي يجهد كل كاتبٍ للوصول إليه، وقد بلغه كونديرا وأجاد به.
لا يُجهد كونديرا نفسه بتقديم تنويعاتٍ سردية في كل عمل، لكنّه يُبدع في طرح فكرته بأسلوبٍ هو مزيجٌ من التسطيح والعمق في آن، ولا يعنيه إن كانت روايته قابلةً للقراءة عند الأغرار بل يكفيه أن يقدّم فنّاً روائيّاً محضاً حتى وإن لم يقرأ له إلا النخبة من القرّاء.
لا نجد – في الغالب الأعم من أعمال كونديرا – شخصياتٍ ثانوية، بل يحمّل كل شخصية عبء النهوض بحدثٍ دراميٍّ في سياق العمل حتى وإن كان ظهور الشخصية قليلاً لكنه واضح الأثر وضروريٌ في مجرى الحكاية.
سنصل في نهاية رواية البطء إلى شطحةٍ خياليةٍ بديعة وهو لقاء الشخصيات وحوارهم في مكانٍ واحدٍ رغم الاختلاف الزمني بينهم، لكنّي أجدها أفضل جزءٍ من الرواية وأقربها إلى التصديق رغم غرائبيتها، والحال أن كونديرا عند هذا الفصل من الرواية يقدّم نفسه فيلسوفاً مفكراً لا أديباً روائياً ويحاول أن يضبط ميزان الرواية على هذا النهج.
صدرت الرواية عن دار المركز الثقافي العربي بترجمة خالد بلقاسم، وتقع الرواية في 116 صفحة من القطع المتوسط، وهي بالمجمل رواية صعبة رغم قصرها ولاتناسب – على غرار أعمال الكبير كونديرا- أولئك الشباب المقبلون على القراءة من جديد.
التعليقات