ثمة حقيقة يجدر بنا أن نُشير إليها بدايةً وهي أنّ أمين معلوف يمتلك أرضيةً رحبةً للحديث عن صراع الحضارات وتمايزها والتفاضل بينها والتكهّن بمستقبلها، وقد قدّم في هذا الباب ألواناً من الكتب الفكرية والأدبية جعلته مرجعاً محكّماً في هذا المجال.

في روايته الجديدة “إخوتنا الغرباء” تناول الكاتب العالم كله بالملاحظة والتحليل، واستشرف من خلالها مستقبل الحضارة الإنسانية عبر قصة رسام كاريكاتير اختار العيش وحيداً في جزيرةٍ نائية، ولم يَدُر في خلده أنه وفي لحظةٍ ما سيغشى العالم هذه الجزيرة وتتحول من مصيفٍ منعزل إلى شاهدٍ على صراعٍ بين حضارتين متناحرتين تسعى إحداهما باستخدام القوة الناعمة ابتلاع الأخرى وطمس معالمها.

عندما نقرأ “لأمين معلوف” فإنّ القارئ يضع في حسبانه القيم المعرفية، والتحليل الإجتماعي، وتسلط الاستعمار بمفهومه الحضاري الثقافي الذي سيضمّنه الكاتب/الموسوعة في عمله، لكن يبدو أن “معلوف” خسر هذه الجولة وقدّم عملاً ضعيفاً لايرقى بمستواه الفني والفكري حتى إلى أضعف أعماله السابقة. وسأوضّح لكم ذلك خلال الفقرات الآتية:

“أليك” رسام كاريكاتير شهير يقيم في جزيرةٍ في الأطلسي في معزلٍ عن العالم كله، يُرسل رسومه عبر البريد الإلكتروني ويعتاش من ريع بيعها، ويتحيّن أوقات المدّ والجزر ليستغلّ ممراً بريّاً يسمح له بالوصول إلى جزيرةٍ أخرى لابتياع لوازم بيته. تشاركه الإقامة في هذه الجزيرة الروائية “إيف” لكنهما لم يلتقيان ساعةً من نهار ويعيش كل فردٍ منهما مُنزَوٍ عن الآخر.

يحصل أن تنقطع الكهرباء وشبكة الإتصالات عن الجزيرة، فيظنّ الرجل أنّ كارثةً نوويةً حلّت على كوكب الأرض، وأنّ البشرية في طريقها إلى الفناء المُعجّل، فيخرج من بيته مدفوعاً بحسّ المروءة للاطمئنان عن حال جارته الكاتبة؛ فينشأ بينهما ودادٌ واستلطافٌ ينمو بينهما سريعاً حتى يوصلهما إلى سريرٍ واحد.

في مسار الرواية يخبرنا الكاتب أنّ بشراً يسمّون أنفسهم “أصدقاء إمبيدوقليس” جاؤوا من مكانٍ مجهول وقطعوا الاتصالات عن الأرض ليحمونا من كارثةٍ نووية كان ديكتاتورٌ قوقازيٌّ أرعن أن يُشعل فتيلها. عند هذا الحد يضع الكاتب قرّاءه أمام حضارتين: حضارتنا نحن البشر، وحضارة “أصدقاء إمبيدوقليس” وهم أُناسٌ آخرين لا نعرف عنهم شيئاً إلا أنهم يبجّلون حضارة الإغريق وفلاسفتها ويفوقوننا في الطبّ والتكنولوجيا.

يخوض الكاتب في سذاجاتٍ حول التفوّق الطبي عند هؤلاء الغرباء “أصدقاء إمبيدوقليس” من مثل أنهم يمتلكون سفناً استشفائية فيها ما يشبه النفق الذي ما إن يدخله المريض حتى يخرج منه معافىً من سائر أمراضه، بل ويعود إليه شبابه مع أملٍ بعمرٍ مديدٍ قد يصل به إلى مئة وخمسين عاماً، وأكثر من هذا، لقد أعادوا الحياة لبعض الشباب الذين قضوا إثر تفجيرٍ انتحاريٍّ استهدف إحدى هذه السفن!!

يخالج الرئيس الأمريكي أملٌ بأن يعالج نفسه في إحدى هذه السفن، لكنّ منصبه يحتّم عليه ألا يضع نفسه -بصفته الاعتبارية- تحت رحمة بشرٍ لانعرفهم وقد يكونوا أعداءً لحضارتنا لكنهم يلبسون لبوس المحبة والصداقة، وهنا يسترسل الكاتب في ترّهاتٌ مملة حول الدستور الامريكي ودور الرئيس ونائب الرئيس خلال الأزمات.

في البيئة والشخصيات: خرج الكاتب عن البيئة المحليّة وتوجّه إلى العالمية ليكون العالم كله مسرح الأحداث، وتمتد أحداث الرواية شهراً كاملاً دون تحديد عامٍ معيّنٍ، كما نلاحظ جموداً واضحاً في بناء شخصيات الرواية وكأنّ الكاتب لايقيم وزناً للتأثير النفسي الذي يتكالب عليهم حتى كاد أن يُفقدهم وجههم الحضاري!

لقد استخدم الكاتب إمكاناتٍ كبيرة من التخيّل حتى بات أقرب إلى الوهم من الواقع، ربما أراد التلميح إلى عصر الحروب الاستعمارية ودورها في إبادة ثقافات الشعوب المُستضعفة. وربما لمّح إلى دور الطب والتكنولوجيا في التسلّط على الشعوب باعتبارها القوة الجديدة التي تلوي بها الدول العظمى يد الدول الأصغر فتفرض عليها قانونها وسلطتها. كما سنجد في الرواية إشارةً واضحةً إلى المختبرات التي تصنع الفيروسات القاتلة وجعلها سلاحاً فتّاكاً قد يُستخدم في الحروب القادمة.

تحمل الرواية أشكالاً أخرى من التأويل وباب القول فيها مفتوحٌ، وكلّ قارئٍ يراها بحسب عمق بصيرته إلا أنّها ليست ميزة تُحسب للكاتب، إذ أنّ قالب الرواية شديد الركاكة، واللمسات الفنية والجمالية والسردية فيها ضعيفةٌ واهية. لكنّ ذلك لم يغيّر من قيمة الكاتب في نظري ولايبخس حقّه عندي بين رجال الأدب والفكر، لكنها كبوة ولكلّ حصانٍ كبوة.

صدرت الرواية عن دار الفارابي وتقع في 324 صفحة من القطع المتوسط، وهي رواية ضعيفة أنصح عِوَضاً عنها بقراءة كتاب “غرق الحضارات” للكاتب ذاته إذ أبدع فيه وأجاد على عكس ماصدمنا به هنا.