كم هو وحيد وبائس ذلك الذي يختبئ في قبو، في قبو روحه، ذلك الذي لم يتكيف يوماً مع واقع ولا أستطاع أن يعرف كيف يعيش مع الناس، كان يمل أسرع مما كان يفقد فيه حاسة الثقة بالنفس، كان مجروحاً، ثم غدا آثما، ثم عصبياً، هائجاً، ناقماً على كل شيء، تسلل داء الوحدة والعزلة إلى روحه، كان أشبه بمن أستفاق في سجن، كان يرى أن الحياة سجن سخيفة، سجن مليء بأناس فوضويون، بقساة القلوب، ظل بطلنا في قبوه لمدة عشرين عاماً، منعزلاً عن الحياة والبشر، أصبح يرى الواقع مثل كومة هباء، لم يجبر نفسه يوماً فعل ما يجعله يعتقد خلاف ذلك، ما من أمر أجبره على الخروج من ذلك القبو العفن، بالوحدة والخطايا، والتأنيب ، وكما عبر نابكوف مرةً :

مر بطل قبونا - إن شئنا أن نسميه - بمرحلة الإنسحاب، ثم التكور على الذات، ثم النقمة على المجتمع، ثم الغضب، ثم التعب، وبعد ذلك الهذيان في الكتابة، كان شريراً بحق، لاذعاً، غير عابئ حتى بكرامته، أصبح يلقي بالخطب والمواعظ، تعب من إنتقاد ذاته، يعلم أنه تصرف في مرات عديدة ببلاهة، يلتقي بأصدقاء قدماء، لا يرونه سوى حشرة تداس، وفي أفضل الحالات تحول إلى موضع للسخرية في جلسة خمر، يا إلهي كم يفقد الإنسان نفسه حين لا يعود يتعرف على واقعه، يصبح ضحلاً، يُسمي أتفه التفاصيل التي يعملها إنتصاراً، يضخم من ذاته ثم ينكمش، فيتحطم في نهاية المطاف، ثم يلتقي بمن هو أدنى منه، فالويل لذلك الأدنى، الذي سيصب عليه جام غضبه ومواعظه الأخلاقية ورؤيته للإنسان الفاضل، من هو؟ مجرد هارب يبحث عمن يكون أدنى منه، مجرد خائف من مواجهة ذاته، القبو عبارة عن أرض يرقد فيها بطلنا بلا حياة، ولكنه أصبح يعرف كيف يحكي ويعبر عن ذاته أيما تعبير، أصبح موقناً بأن لا شيء أفضل من أن يحكي ويسخر ويغرق الورق بخموله النفسي ولا-واقعيته، مرارة حياته هو، صار يندب ماضية، وواقعه والمجتمع المادي الجامد الذي يعيش فيه، صار يعي أن حياته قد أنتهت في ذلك القبو المعتم، حياته ، شروده، غموضه تجاه الأشياء، أحلامه التي لم تكن يوماً سوى أحلاماً بسيطة، صارت توخزه، تجعله غاضباً على الدوام ..

هذه الرواية ربما تكون من أعمق ما كتب دوستويفسكي في مجال النفس البشرية وإزالة الموانع أمام التعرف على روح الإنسان الداخلية بمسحة شديدة من السوداوية، والرؤى المحطمة، والأسلوب اللاذع والتهكمي من مصير الإنسان وحياته وبواعثه، تحكي عن الهروب البشع أمام الحضارة والمادة، أمام المجتمع والواقع ، إما أن ينكمش الإنسان أو يتمادى في واقعيته، لا حل آخر، يظهر دوستويفسكي متعصباً، غاضباً من مجتمعه، غير آبهاً لسخرية الآخرين، ولا متطلعاً لترف الاعجابات، رواية صريحة، عميقة، مدهشة، ومرعبة أيضاً في تحليلها وواقعيتها ..

ذكرني بطل هذه الرواية ببطل رواية (الليالي البيضاء) ، اللذين يتجسدان بلا أسم ولا أوصاف، يخرجان من جحريهما نحو فضاء لا يعرفانه، يتخبطان في الواقع، يحكيان مثل ساذجين، خرجا من كتاب وظلا يثرثران، هناك ربط عجيب بين الروايتين، ومشاعر متشابهة لدى قراءة كليهما، هل يمكن أن يكون الشخص ذاته، راودتني هذه الأفكار فعلاً، هل هذا هو مصير الذي كتبه دوستويفسكي لصاحبنا في رواية (الليالي البيضاء)، هل وصل به الحال أن يرمي بطله في حفرة مثل هذا القبو وهو يشاهده يغضب ويثور، ويتخبط، لا أستبعد ذلك خصوصاً وأن كلاهما كان حالماً، حساساً، غريب الأطوار، وحيدين مثل سلحفاة، عاطفيين مثل أبطال الحكايات الغابرة، ربما تكون مذكرات القبو هذه هي الجزء التالي لحكاية العاشق، العاشق المخرّب، الذي خسر الحب ، خسر حياته، واقعه، وظل يكتب ويكتب، يكتب مثل من يحلم بالنجاة ..

اقتباسات من رواية رسائل من تحت الارض او الانسان الصرصار :

ان الذكي لايمكنه ان يكون شيئا خطيرا وان الاحمق وحده هو الذي يمكنه ان يكون اي شيء

ان افظع ما في الحياة يتجلى عند الادراك الشديد بالقصور الذاتي وبالتالي انت لست قادر على تغير نفسك فحسب انما لا تستطيع ان تفعل شيئا بالمرة

كل اعمال الانسان تتالف في الحقيقة من شيء واحد فقط هو اثباته لنفسه انه في كل لحظة انسان وليس مجرد مفتاح بيانو

الادراك اسوء ما يتميز به الانسان

ماهي الاهانة ان لم تكن نوعا من التطهير بل انها اشد انواع الادراك ايلاما وسحقا

ترى مالذي يستطيع ان يتحدث به الانسان السوي ويحس باعظم متعة اوليس الحديث عن نفسه

كان من الصعب علي أن أجلس مكتوف اليدين، ولهذا فقد حاولت أن أحطم قيودي، ولكم أن تصدقوا هذا. ولو نظرتم إلى أنفسكم أيها السادة لعرفتم ما أعني، ولتبين لكم صدقه