أولًا، اعلم يا عزيزي القارئ أني لا أؤمن بالإسلام لما فيه من إعجازات، ولا أؤمن أن هنالك عاقل في عصرنا سيختار دينًا بناءً على معجزاته وخاصةً إن كانت معجزات غير مادية، وما أقوله ليس ببدعة ولا بهلوسة، فالله في قرآنه رفض أن يؤيد رسوله عدة مرات بأي "آية من السماء" لحجج واقعية جدًا وهي أن الناس سيقولون عليه ساحر ومجنون وهنالك من يعينه، وهذه نفس الأسباب التي أراها والتي سيراها أي انسان في عصرنا إن جاءه من ادعى النبوة، ولا يظن أحدنا أن في هذه الآيات إهانة لقوم الرسول بل أرها أقوى دليل على أن الإسلام جاء خاتمًا للوحي لأنه ببساطة يدل على اكتمال نمو وتطور العقل البشري، ففكرة المعجزة لم تعد لها الأثر الأول الذي ظهر في الديانات قبله سواء في قيامة ليعازر أو معارك التوراة.

وتخيل أخي العزيزي أني ذهبت لأحد القبائل البدائية -ونصيبها من العلم قليل، وادعيت حبسي لأرواحهم في صندوق سحري أسميته الكاميرا وأني نبي الله جئت أحررهم من جهلهم وعباداتهم الظالمة، فهل أنا بنبي حقًا؟ لذلك لا أعتد بالمعجزة كدليل على النبوة مثلي كمثل من عاش قبل أربعة عشر قرنًا، وأؤمن بما أؤمن به لأفكاره حول الدين والتي ظلت طيلة القرون الماضية شبه فكرة واحدة تدور حول مبدأ التوحيد الإسلامي في كل الفلسفات الدينية.

ولكن فرق أخي العزيز بين المعجزة الموجهة للكافرين وبين الكرامات وما يفعله الله لأنبيائه وعباده الصالحين "لتطمئن قلوبهم"، فما إبراهيم -وهو أول الأنبياء- بمحتاج للمعجزة للإيمان، ولكنه طلب من الله أنه يريه كيف يحي الموتى لا لشيئ إلا ليطمئن قلبه، وهذا ما يندرج تحته ما اعتبره المسلمون من معجزات النبي بعد ذلك لأنها ببساطة لن يؤمن بها إلا من آمن بالله بالفعل.

ورغم عدم إتيانه بمعجزة -صلى الله عليه وسلم- على شاكلة معجزات من قبله، وتكرر شكوى قومه منه، فقد أيده الله بالقرآن، وهو ما اعتمد عليه طوال بعثته، وظهر في القرآن التحدي الأول والذي لم يكن بمعجزة ولكنه تحدي للمشركين في حينها والذي جاء في مقتل لأن اسلوب القرآن ونظمه وتركيبه جاء مخالفًا لكل ما عرفه العرب، فلم يكن نظمًا ولا شعرًا، ولا سجعه سجع، ولا صوره معتادة، ولا ألفاظه كألفاظ أمرئ القيس ولا عنترة ولا معلقات العرب، فاستغل القرآن هذه الصدمة ووجه الضربة الأولى وتحدى أن يأتي المشركون بعشر سور من مثل هذا الأسلوب الجديد والفن الجديد، وبعدما اكتملت السور أكثر واكتملت معالم القرآن أكثر فقد نزل القرآن منجمًا وكانت هنالك آيات تضاف للسور حتى اللحظة الأخيرة لإنقطاع الوحي، تحدى القرآن أن يأتي أحدهم بسورة من مثله هكذا دون توضيح شروط غير أن يكون الشهداء من عند المشركين أنفسهم:

وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ

وكما تعلم عزيزي فالعادة تقتل كل شيء وبالإعتياد على القرآن بدأ يفقد أثره على المسلمين تدريجيًا وبدأوا يتساءلون لما التحدي بتلك الصعوبة؟ ألا يستطيع أحد حقًا قبوله؟ ما الشروط وما المقاييس؟ هل النظم يكفي أم المعنى أم البلاغة أم الأثر النفسي؟

حتى ان بعض المسلمن بعد القرن الاول بدأوا يقولون بالصرفة، وأن القرآن يمكن ان يقوله أحدنا الآن بعدما اعتادت آذانهم عليه واستمعوا له ليل نهار وإن لم ينصتوا، وأن الإعجاز ليس فيه ذاته بل في صرف الله المشركين أن يحاولوا، فإن حاولوا خرجت محاولاتهم ضعيفة فقيرة، كما يروى عن مسيلمة وغيره، وكانت هنالك محاولات جادة لتقليد النظم القرآن، والنظم على شاكلته مثل: ابن المقفع، أو ببساطة من تروى عنهم أبيات شعر من شعراء الجاهلية التي تقترب في معناها والفاظها وأسلوبها بشكل كبير من القرآن، وكلما صغرت الكمية أصبحت المهمة أسهل، فيكفي أن تقرأ الأبيات الآتية لتشعر بالشبه:

وخف الموازين بالكافرين.... وزلزلت الأرض زلزالها

ونادى مناد بأهل القبور....... فهبوا لتبرز أثقالها

وسعرت النار فيها العذاب..... وكانت السلاسل أغلالها

وأبو العلاء المعري، ذلك العبقري الداهية إليه البعض معارضة القرآن وكذلك المتنبي في حداثة سنه، وبالتأكيد مسيلمة والأسود العنسي ممن ماتوا مع نبواتهم، وهذا بعض مما أدعى البعض نسبته لعباقرة الشعراء، ولا يهمنا نسبه قدر ما يهمنا أن أحدهم أخذ التحدي:

والنجم السيار والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي أخطار. امض على سنتك، واقف أثر من قبلك من المرسلين، فإن الله قامع بك زيغ من ألحد عن دينه، وضل عن سبيله.

نُسب للبحتري

والبعض قال ان المعري عارض القرآن في كتاب الفصول والغايات، وكان له رأي مميز جدًا حيث معروف عنه قوله ان قيمة القرآن الحقيقية وقدسيته أنه حبرته المحاريب أربعمئة سنة -وازدادوا ألفًا في عصرنا، وقد يعد رأيًا قويًا عند الحديث عن التحدي القرآني لأن أي متسابق اليوم نجد أن كلامه تافه مقارنة بالقرآن، وتعليل المعري -ذلك العبقري- يستحق النظر والتمحيص، ومما نسب إليه:

أقسم بخالق الخيل، والريح الهابة بليل، بين الشرط مطلع سهيل، إن الكافر لطويل الويل وإن العمر لمكفوف الذيل، تعد مدارج الذيل، وطالع التوبة من قبيل، تنج وما أخالك بناج

المشاكل حول هذا التحدي ما زالت حتى اليوم، فهنالك كتاب بهاء الله الذي قد يعد معارضة للقرآن في المعنى لا اللفظ، ولدينا محاولات نظمية مبكرة وضحنا بعضها، وتحدث الناس عن الإعجاز وكنهه فقرر الأغلبية أنه إعجاز بلاغي كما قرر ذلك عبد القاهر في "أسرار البلاغة" ومن تبعه حتى يومنا هذا من المذاهب والأدباء، وظهر نوع من الإعجاز العددي مبكرًا بحيث عد عدد مرات ذكر كلمة شهر ويوم فتجدهم ١٢ و٣٦٥،والتوازن بين عدد مرات ذكر الكلمات المتقابلة مثل دنيا وآخرة، والبعض أشار لإعجاز علمي كالجاحظ وبعض المفكرين الأوائل، وبعض المفكرين كالحاج حمد وأحمد بسام ساعي وغيرهم اتخذوا مناهج جديدة لدراسة القرآن ومنها دراسة إعجاز القرآن ليدرسوه من وجهات نظر مختلفة كالتركيبية واختلاف لغة القرآن عن الشعر والنثر، وما زلت أنتظر دراسة جادة للأثر النفسي للأسلوب القرآن على من يسمعه من مؤمنين ورسول وكفار ومشركين بدرجاتهم، فأنا أؤمن بأن ترتيب الآيات يعطي أثر نفسي مناسب لكل فئة على حسب المراد منها، فهنالك فئة سيوجه لها القرآن أمر بالتقوى فيمهد للأمر بعدة آيات حتى يصل بالمستمع لحالة نفسية تجعله يتقبل الأمر، أو هكذا يهيأ لي.

وأنت يا عزيزي القارئ، ما رأيك حول التحدي القرآني؟ ما هي معاييره؟ هل تؤمن بالمعجزات؟ ما معجزة القرآن في نظرك؟

فكرة هذا الموضوع راودتني أثناء قراءتي لكتاب "المعجزة القرآنية" لأحمد بسام ساعي، الكتاب حتى الآن مثير للإهتمام.