كلما ارتفعت منزلة القلب… كانت العقوبة إليه أسرع

تمهيد:

يقول أبو سلمان الداراني: كلما ارتفعت منزلة القلب… كانت العقوبة إليه أسرع. (ابن الجوزي-صفة الصفوة 2/381)

فقلوب العباد عند الله ليست سواء، منها القاسي ومنها الرقيق، منها الغافل ومنها المنيب، ومنها ما بلغ مقام الولاية والمحبة والأنس بالله. وكلما علَت منزلة القلب عند ربه، صار أدقّ محاسبة، وأسرع تأديبًا، وأقرب إلى الملاحظة.

القلوب مراتب:

القلوب عند الله ليست على درجة واحدة، بل تتفاوت كما تتفاوت درجات الإيمان، فهناك:

  • قلب غافل لا يشعر.
  • وقلب عاصٍ يتبلد أمام الذنب.
  • وقلب حيٌّ مُحبّ يرتجف من الزلّة.

كلما ارتفع القلب في الإيمان، كلما صار محطّ عناية خاصة من الله، كما قال تعالى:

{إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّابِینَ وَیُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِینَ} [البقرة: 222]

سرعة العقوبة علامة محبة:

العقوبة السريعة على الزلل ليست دليلاً على البُعد، بل قد تكون أثرًا من آثار المحبة والعناية، كما قال بعض السلف:

"إذا أحب الله عبدًا، عجّل له العقوبة في الدنيا."

وإذا ارتفعت منزلة العبد، صار الله يربّيه ويرقّيه بالعتاب والحرمان والضيق، حتى لا يركن إلى الغفلة، ولا يتلطخ بما لا يليق بمقامه.

أمثلة من سيرة الأنبياء:

1. آدم عليه السلام:

بمجرد أن أكل من الشجرة، أُهبط من الجنة، رغم أنه تاب سريعًا.

لأن مقامه عالٍ، والزلة لا تليق به، فجاء التأديب عاجلًا.

2. موسى عليه السلام:

حين ألقى الألواح وخرّ على وجهه، ثم قال:

{فَٱخۡتَارَ مُوسَىٰ قَوۡمَهُ} [الأعراف: 155]

فأدّبه الله في مواضع عدّة، رغم مكانته الرفيعة، لأنه نبيٌّ كلّمه الله.

3. النبي ﷺ:

عاتبه ربه بقوله:

{عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ} [عبس: 1]

في موقف كان يراه الناس عاديًّا، لكنه عند الله ثقيلٌ لأن قدره عظيم.

4. يوسف عليه السلام:

قال تعالى: {فَأَنسَىٰهُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ ذِكۡرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِی ٱلسِّجۡنِ بِضۡعَ سِنِینَ} [يوسف: 42]

لما اعتمد يوسف على من ظن أنه سينصره في سجنه، فذكره للملك، نُسِي، وابتلي باللبث في السجن بضع سنين.

مع أنه نبيّ كريم، لكن مقامه عالٍ، فأدّبه الله سريعًا، ليعلّمه أنه لا ملجأ إلا إليه.

فائدة تربوية:

لا تُفزع إن شعرت أن الله أسرع لك بالعقوبة على زلة ظاهرة أو خفية…
فهذه ليست قسوة، بل رحمة تليق بمقامك، كي لا تتدحرج منزلة قلبك.

يقول ابن الجوزي:

"لو لم يكن في العقوبة إلا أنها علامة العناية، لكانت نعمة."

آثار هذا الفهم:

  1. يزيد خوفك من الزلل كلما اقتربت من الله.
  2. تحمد الله على التأديب، فهو عناية، لا إذلال.
  3. ترى الذنب ثقيلًا حتى لو كان صغيرًا، لأن مكانتك لا تليق بها الزلّات.

قال ابن القيم:

"إن زلّة المحب ليست كزلّة الغريب، لأنها تقع من قريب."

ختامًا:

كلما عَلَتْ منزلة القلب، صارت عناية الله به أشد، وملاحظته له أدق، وتأديبه أسرع، لأنه غالٍ عند ربه.

فمن أكرمه الله بالقرب، فلا يرضَ لنفسه الغفلة، وإن لَمس العقوبة فليعلم أنها عقوبة محبّة، لا إهانة.

قال يحيى بن معاذ:

"الذنوب جراحات، ورب جرح وقع في مَحبٍّ فقتله."