الخواطر والوساوس بين هجوم النفس وصريح الإيمان: قراءة إيمانية مطمئنة

مقدمة

في خضم الحياة اليومية، لا يكاد يخلو قلب إنسان من ورود خواطر مباغتة، وأفكار مزعجة، وأحيانًا وساوس قهرية تتسلل إلى النفس بلا إذن. قد تكون هذه الخواطر غريبة، محرجة، أو حتى مقلقة لدرجة تجعل صاحبها يشك في إيمانه أو صلاح قلبه. فهل مجرد وجود هذه الخواطر دليل على ضعف الإيمان؟ أم أن كراهيتها ومقاومتها هي الصواب؟

هذا المقال يتناول هذه القضية الحساسة من منظور إيماني مستنير، مستندًا إلى حديث نبوي عظيم يبعث الطمأنينة في القلوب، ويرد على الشيطان كيده وسوء ظنه بالمؤمنين.

أولًا: الخواطر... طبيعتها وأنواعها

الخواطر هي تلك الأفكار التي تهجم فجأة على النفس، بلا استئذان، كما يهاجمها النفس (الهواء الداخل والخارج) بشكل طبيعي. وهي ليست كلها شرًا، فقد تكون من:

  • الله: إلهامات وإشارات خير.
  • النفس: رغبات وهوى وشهوات.
  • الشيطان: وساوس وتزيين للباطل.

ولأن الإنسان لا يملك الباب الذي تأتي منه هذه الخواطر، فهو غير مسؤول عن مجرد حدوثها، بل مسؤول عن موقفه منها.

ثانيًا: الإيمان ليس في غياب الوسوسة بل في مقاومتها

روى مسلم أن الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم:

"يا رسول الله، إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة أحب إليه من أن يتكلم به!"

فقال عليه الصلاة والسلام:

"أوقد وجدتموه؟" قالوا: نعم، قال: "ذلك صريح الإيمان."

وفي رواية أخرى:

"الحمد لله الذي ردّ كيده إلى الوسوسة."

معنى الحديث أن مجرد كراهية هذه الوساوس وعدم التصديق بها وعدم العمل بمقتضاها هو علامة قوة الإيمان وصفائه. فلو لم يكن في قلبك خير لما تألمت أصلاً من هذه الوساوس!

ثالثًا: دور العقل والإيمان في صدّ الوساوس

رغم أن الخواطر قد تهاجمك دون إذنك، إلا أن الإيمان والعقل يعملان كحائط صدّ داخلي:

  • يقول لك الإيمان: "هذا لا يليق بي كمؤمن."
  • ويقول لك العقل: "هذا باطل، ليس له أساس."
  • ويصرخ الضمير: "استغفر الله، لا أرضى بهذا!"

هذا الدفاع الداخلي — هذا الصراع بين الرغبة والضمير — هو الامتحان الحقيقي، وفيه يظهر الفرق بين من يستجيب ومن يستعيذ، بين من يُسلم نفسه للخاطرة ومن يقاومها.

رابعًا: خطورة الخلط بين الخاطرة والذنب

كثير من الناس يظنون أن مجرد وجود فكرة سيئة في القلب هو ذنب يجب التوبة منه. والحق أن الخاطرة وحدها ليست معصية، ما لم تتحول إلى:

  • تمني قلبي لها.
  • نية جازمة على تنفيذها.
  • قول أو عمل مبني عليها.

أما ما دام القلب يرفض، واللسان لا ينطق، والجوارح لا تعمل، فالخاطرة عابرة لا تُؤاخذ بها، بل قد ترفعك إلى مراتب أعلى من الإيمان بسبب مجاهدتك لها.

خامسًا: الطمأنينة الكبرى... الشيطان لم ينتصر

تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي ردّ كيده إلى الوسوسة".

أي أن الشيطان لم يتمكن منك، لم يجرّك إلى الفعل، بل كل ما فعله هو الوسوسة من بعيد، فلما صدّه إيمانك، ارتدّ مذلولًا مهزومًا.

وهذا من فضل الله على عباده: أن جعل مجرد مقاومة الوسوسة جهادًا قلبياً وأجرًا عظيمًا، ودليلًا على صدق الإيمان.

الوسوسة والوَسواس: ما يلقيه الشيطان في القلب. وقال الراغب: الوسوسة: الخطرة الرديئة، وقال البغوي: الوسوسة القول الخفي لقصد الإضلال، والوسواسُ: ما يقع في النفس وعمل الشر وما لا خير فيه، وهذا بخلاف الإلهام فهو لما يقع فيها من الخير. قال ابن القيم رحمه الله: " الوسوسة: الإلقاء الخفي في النفس إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من أُلقِيَ عليه، وإما بغير صوت كما يوسوس الشيطان للعبد "
واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر، فيأخذها الذكر فيؤديها إلى الإرادة، فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة، فردها إلى مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها
ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار، و إصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات، وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركه أسهل من قطع العوائد.
فمثالك معه (الشيطان) مثال صاحب رحى يطحن فيها جيد الحبوب، فأتاه شخص معه حمل تراب وبعر وفحم وغثاء ليطحنه في طاحونته، فإن طرده ولم يمكنه من إلقاء ما معه في الطاحون استمر على طحن ما ينفعه وإن مكنه من إلقاء ذلك في الطاحون أفسد ما فيها من الحب وخرج الطحين كله فاسداً.
وجماع إصلاح ذلك: أن تشغل فكرك في باب العلوم والتصورات بمعرفة ما يلزمك من التوحيد وحقوقه وفي الموت وما بعده إلى دخول الجنّة والنار وفي آفات الأعمال وطرق التحرز منها، وفي باب الإرادات والعزوم أن تشغل نفسك بإرادة ما ينفعك إرادته وطرح إرادة ما يضرك إرادته.
إنّ السلامة من فتنة الشيطان بالوسوسة في الإيمان والاعتقادات تكون بطريقتين: الطريقة الأولى: وقائية: وهي الاحتراز من الوسوسة قبل حصولها، وذلك بالتحصن بالعلم والعكوف على مسائل التوحيد والإيمان، دراسة ومذاكرة، لأنّ الشيطان لا يجد السبيل سالكاً لتشكيك أهل العلم بالإيمان، فكلما أراد عدو الله أن يصرعهم صرعوه، وإذا شغب عليهم بوساوسه، ردوها عليه بما عندهم من الهدى والعلم ورجموه، " وَلَعالِـمٌ واحد أشدّ على الشيطان من ألف عابد "، ومَن عرف الله تعالى من خلال صفاته ومخلوقاته، عظّم ربه حق التعظيم، وقَدَّره كل التقدير، ولا يزال أبداً يحسن الظن بمولاه حتى يلقاه.
الطريقة الثانية: إذا وقعت الوسوسة في النفس،دفعها المسلم المدرك، وأبطلها بستة أمور: الأمر الأول: الكف عن الاسترسال في الوسوسة، والانتهاء عنها بقطع حبالها ومتعلقاتها، مستعيناً على ذلك بالاستعاذة بالله من شر الشيطان الرجيم. الأمر الثاني: لا يسأل أسئلة صريحة عن هذه الوساوس التي تدور بخاطره، أي لا يصرح بشيء من ذلك، فإنه في عافية، مادامت الوساوس محصورة في قلبه لم تنتقل بعد إلى لسانه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنّ الله تجاوز لأمتي عما وسوست ـ أو حدثت ـ به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم " (البخاري). الأمر الثالث: أن يقول إذا وجد الوسوسة بثبات جنان ونطق لسان: " آمنت بالله "ومن المعلوم أنّ الإيمان به تعالى هو ركن الإيمان الأول بالغيب، ومنه ينطلق الإيمان ببقية الأركان، فالتأكيد عليه بالنطق كذلك تذكير بالله تعالى وطرد للشيطان. الأمر الرابع: قال ابن القيم رحمه الله: " وأرشد ـ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ من بُلي بشيء من وسوسة التسلسل في الفاعلية، إذا قيل له: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ أن يقرأ: (هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) سورة الحديد: الآية 3. الأمر الخامس: الالتجاء إلى الله تعالى بالدعاء، وطلب تثبيت القلب على الإيمان. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو فيقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " الأمر السادس: إذا استمرت الوساوس، فما عليه إلا أن يردَّ ما يُشكل عليه ويؤرقه، ويكدر صفو اعتقاده بربه ويزعزعه إلى أهل العلم، لقول الله تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)
وأما النوع الثاني وهو وسوسته في العبادات فهو أمر يوقع فيه الشيطان بعض الناس فيأتيهم في الصلاة مثلا فيخيل إليهم أنهم قد أحدثوا أو أن الواحد منهم صلى ثلاثا بدلا من أربع ركعات...وكأن يأتي العبد بعد الفراغ من الوضؤ فيوسوس له أنه لم يمسح رأسه،أو لم يغسل العضو كما ينبغي. وعلاج هذا النوع أساسا بعدم الالتفات له خصوصا إذا صار عادة للشخص

خاتمة

لا تدع الخواطر تقلقك، ولا تظن أن قلبك مريض لمجرد أنها زارتك. القلوب الحية هي التي تحزن إذا خطرت عليها وساوس، وتستغفر، وتقاوم. أما القلوب الميتة فهي التي تتقبلها وتعمل بها بلا وجل.

فإن هجمت عليك وساوس في الدين أو في الذات الإلهية أو في الناس أو حتى في نفسك، فاستبشر... فقد قال نبيك: "ذلك صريح الإيمان."

فتمسّك بإيمانك، وقل:

اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، ولا تجعل للشيطان عليّ سلطانًا.

_____

أنصح بقراءة: خطورة الوساوس والخطرات و الوسوسة سلاح الشيطان