ويدل على ذاك عشرة أوجه:      

الأوّل: فصاحته التي امتاز بها عن كلام المخلوقين.  

الثاني: نظمه العجيب وأسلوبه الفريد من قواطع ‏آياته وفواصل كلماته.  

الثالث: عجز المخلوقين في زمان نزوله وبعد ذلك إلى الآن عن الإتيان بمثله. 

الرابع: ما أخبر فيه من أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية ولم يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم تعلم ‏ذلك ولا قرأه في كتاب.  

الخامس: ما أخبر فيه من الغيوب المستقبلة فوقعت على حسب ما قال.

‏ السادس: ما فيه من التعريف بالباري جل جلاله. وذكر صفاته وأسمائه، وما يجوز عليه. وما يستحيل ‏عليه، ودعوة الخلق إلى عبادته وتوحيده، وإقامة البراهين القاطعة، والحجج الواضحة، والردّ على ‏أصناف الكفار، وذلك كله يعلم بالضرورة أنه لا يصل إليه بشر من تلقاء نفسه، بل بوحي من العليم ‏الخبير، ولا يشك عاقل في صدق ذلك من عرف الله تلك المعرفة وعظم جلاله ذلك التعظيم ودعا عباد ‏الله إلى صراطه المستقيم.

السابع: ما شرع فيه من الأحكام وبين من الحلال والحرام، وهدى إليه من مصالح الدنيا والآخرة، ‏وأرشد إليه من مكارم الأخلاق، وذلك غاية الحكمة وثمرة العلوم.

الثامن: كونه محفوظا عن الزيادة والنقصان، محروسا عن التغيير والتبديل على طول الزمان، بخلاف سائر الكتب.

التاسع: تيسيره للحفظ وذلك معلوم بالمعاينة. 

 العاشر: كونه لا يمله قارئه ولا سامعه على كثرة الترديد، ‏بخلاف سائر الكلام. 

فإن قيل: ما الحكمة في تكرار قصص الأنبياء في القرآن؟ فالجواب من ثلاثة أوجه : ‏

الأوّل: أنه ربما ذكر في سورة من أخبار الأنبياء ما لم يذكره في سورة أخرى، ففي كل واحدة منهما ‏فائدة زائدة على الأخرى

 الثاني: أنه ذكرت أخبار الأنبياء في مواضع على طريق الإطناب. وفي مواضع ‏على طريق الإيجاز، لتظهر فصاحة القرآن في الطريقتين. 

الثالث: أن أخبار الأنبياء قصد بذكرها مقاصد ‏فتعدّد ذكرها بتعدّد تلك المقاصد، فمن المقاصد بها إثبات نبوة الأنبياء المتقدّمين بذكر ما جرى على ‏أيديهم من المعجزات، وذكر إهلاك من كذّبهم بأنواع من المهالك.‏

‏ ومنها إثبات النبوة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم لإخباره بتلك الأخبار من غير تعلم من أحد. وإلى ذلك ‏الإشارة بقوله تعالى: ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا [هود: 49] ومنها إثبات الوحدانية. ‏ألا ترى أنه لما ذكر إهلاك الأمم الكافرة قال: فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ‏‏[هود: 101] ومنها الاعتبار في قدرة الله وشدّة عقابه لمن كفر ومنها تسلية النبي صلّى الله عليه ‏وسلّم عن تكذيب قومه له بالتأسي بمن تقدّم من الأنبياء: كقوله: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام: ‏‏34] ومنها تسليته عليه السلام ووعده بالنصر كما نصر الأنبياء الذين من قبله. ومنها تخويف الكفار بأن ‏يعاقبوا كما عوقب الكفار الذين من قبلهم، إلى غير ذلك مما احتوت عليه أخبار الأنبياء من العجائب ‏والمواعظ واحتجاج الأنبياء. وردّهم على الكفار وغير ذلك. فلما كانت أخبار الأنبياء تفيد فوائد كثيرة: ‏ذكرت في مواضع كثيرة. ولكل مقام مقال.

 تفسير ابن جزي = التسهيل لعلوم التنزيل

قَالَ الْأَعْمَشُ أَيْضً عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إِذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ ‏حَتَّى يَعْرِفَ مَعَانِيَهُنَّ وَالْعَمَلَ بِهِنَّ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا ‏يَسْتَقْرِئُونَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يَخْلُفُوهَا حَتَّى يَعْمَلُوا بِمَا فِيهَا ‏مِنَ الْعَمَلِ فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا.‏

سُفْيَانُ عَنْ أبي الزناد قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: وَجْهٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا، ‏وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ، وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ، وتفسير لا يعلمه أحد إِلَّا اللَّهُ. 

الدر المنثور فى ‏التفسير الممأثور

فهذا صنيع القرآن بأهله فكيف يكون صنيعه بمن غاص في أعماق بحار التفسير لاستخراج جواهر المعاني ‏من صدف المباني التي أودعها الله تعالى في كتابه العزيز الذي هو منتهى الحكمة البالغة ولا يفنى ولا ‏ينفد ولا تنقضي عجائبه ، فقد حوى من المعاني الأنيقة والحكم الرشيقة ما بهر القلوب عجبا ، وتأمل ـ ‏أشرق الله قلبي وقلبك بأنوار اليقين وجعلني وإياك من أوليائه المتقين ـ في قوله تعالى (ولو أن ما فى ‏الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله) [لقمان /27] كيف ‏استغنى القرآن العظيم في الآية الكريمة عن ذكر المداد بقوله (يمده) فجعل البحر المحيط بمنزلة الدواة ، ‏والأبحر السبعة مملوءة مدادا أبدا صبا لا ينقطع ، ونظيره قوله تعالى (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ‏ربى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى ولو جئنا بمثله مددا) [الكهف /109] ثم تدبر كيف قال (من ‏شجرة أقلام) ولم يقل من شجر ، يتجلى لك أنه أراد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة حتى لا يبقى ‏من جنس الشجر شجرة إلا وقد بريت أقلاما ، ثم انظر كيف قال : ( ما نفدت كلمات الله) [جمع ‏قلة]ولم يقل : كلام الله [جمع كثرة]يتبين لك أن جمع القلة أبلغ في المقصود ؛ لأن جمع القلة إذا لم يغن ‏بتلك الأقلام وذلك المداد ، فكيف يغنى جمع الكثرة  .أه  جامع لطائف التفسير

إن العلوم وإن تباينت أصولها ، وغربت وشرقت فصولها ، واختلفت أحوالها ، واهتمت وأنجدت ‏أقوالها ، وتنوعت أبوابها وشأمت وأرعقت أصوابها وتغايرت مسائلها وأيمنت وأيسرت وسائلها فهي ‏بأسرها مهمة ، ومعرفتها على العلات نعمة إلا أن أعلاها قدراً وأغلاها مهراً وأسناها مبني وأسماها معنى ‏وأدقها فكراً وأرقها سراً وأعرقها نسباً وأعرفها أبا وأقومها قيلا وأقواها قبيلا وأحلاها لساناً وأجلاها ‏بياناً وأوضحها سبيلاً وأصحها دليلا وأفصحها نطقاً وأمنحها رفقاً العلوم الدينية والفهوم اللدنية فهي شمس ‏ضحاها وبدر دجاها وخال وجنتها ولعس شفتها ودعج عيونها وغنج جفونها وحبب رضاها وتنهد كعباها ‏ورقة كلامها ولين قوامها ‏

على نفسه فليبك من ضاع عمره وليس له منها نصيب ولا سهم فلا ينبغي لعاقل أن يستغرق النهار ‏والليل إلا في غوص بحارها ولا يستنهض الرجل والخيل إلا في سبر أغوارها ولا يصرف نفائس الأنفاس ‏إلا في مهور أبكارها ولا ينفق بدر الأعمار إلا لتشوق بدر أسرارها إذا كان هذا الدمع يجري صبابة على ‏غير مسمي فهو دمع مضيع ،

‏ وإن من ذلك علم التفسير الباحث عما أراده الله - سبحانه وتعالى - بكلامه المجيد الذي لا يأتيه ‏الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد فهو الحبل المتين والعروة الوثقي والصراط ‏المستقيم والوزر الأقوى والأوقي "

جامع لطائف التفسير