"هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن يَأۡتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٖ مِّنَ ٱلۡغَمَامِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ "

 إن الإيتان ـ بالنسبة لنا ـ حركة في اتجاه معين ـ ناتجة من المشيئة ـ في حيز من الزمان والمكان , والعقل لا يمكنه تصور حركة ما إلا في حيز الزمان والمكان , وذلك لأن العقل نفسه مخلوق محكوم بحيز الزمان والمكان المخلوقان أيضا , كما أن كل ما هو ساكن ومتحرك مخلوق أيضا, 

وآيات القرآن الكريم تخاطب هذا العقل المخلوق الذي لا يتصور حركة مخلوقة إلا في حيز زمان ومكان مخلوقان, 

إذاً كل ما يختص بالذات الإلهية المقدسة وصفاتها وأفعالها , وكل ما يختص بعالم الأمر والروح , وكل العوالم التي لا تخضع لهذا الناموس , كل ذلك خارج نطاق العقل من ناحية التصور والإدراك , ولكنه في نفس الوقت مكلف بالإيمان بكل ذلك ـ حسب ما ورد في الكتاب ـ إيماناً جازماً لا شك فيه بالغيب , وهذا الإيمان بالغيب هو أصل الإيمان , ومقتضى الفطرة في أصل خلقتها , 

والذات الإلهية المقدسة في حس العقل المؤمن هي الخالقة لكل شيء وللعقل والحركة والزمان والمكان , ولا يمكن ابدأ احتياجها وتأثرها بشيء ما خارج ذاتها المقدسة . فهو سبحانه وتعالى الحي القيوم , الغني بذاته تعالى عن كل ما سواه , لذلك لا يصح أن نتصور إيتان وذهاب ومجئ أو نزول , كما هو معهود للعقل , فهذا تشبيه وتمثيل , وأفعال الله تعالى الواردة في القرآن الكريم مثل الإيتان والمجيء هي أفعال لها حقيقة وآثار , فحقيقتها لا يعلمها إلا هو الله تعالى , أما آثارها في إدراك العقل وتصوره فهي ما يفهمه العقل من هذه الكلمات القرآنية , في إطار ليس كمثله شيء , إذاً العقل يتعامل مع (آثار الصفات والأفعال ) وليس مع حقائق الصفات والأفعال , وآثار الصفات والأفعال حينما تتفاعل مع نواميس الحركة والزمان والمكان , تبدو للعقل في" معاني" يستطيع فهمها, وهذا ما لا بد منه لكي يفهم العقل خطاب القرآن الكريم , لذلك الآيات الكريمة تصف أفعال الله تعالى ليس كما هي في حقيقتها ( فهذا مالا يمكن وصفه للعقل ولا يمكنه ابدأ إدراكه , ولو أدركه لأصبح إلهاً ) 

وإنما تصف آثارها في عالم الزمان والمكان التي يمكن للعقل أن يتعامل معها على محمل التنزيه .

إذاً أفعال الله تعالى الواردة في كتابه العظيم مثل الاستهزاء والسخرية من المنافقين , والمكر بالمجرمين الماكرين , والإيتان والمجيء يوم القيامة , هي آثار لصفات وأفعال قدسية حقيقية تليق بالله جل جلاله وتباركت أسمائه , والقرآن الكريم يحدثنا ويخاطبنا بآثارها وليس بحقائقها التي لا يمكن للعقل إدراكها , ولا يمكن لمخلوق كائناً من كان لا نبياً مرسلاً ولا ملك مقرباً أن يدركها , ولا يدركها إلا هو سبحانه وتعالى , وهذه الأفعال كما تبدو في مرآة القرآن الكريم هي حقاً وصدقاً , وليست مجازاً ولا خداعاً .

فالمؤمن حينما يتعامل مع الصفات والأفعال الواردة في القرآن الكريم على أساس هذا التصور, فلن يتخبط ويحتار ويضرب في أودية التيه والضلال , كما فعل الأولون والآخرون , فهو قد اجتنب ضنك التطاول إلى ما لا طاقة له به , وهى حقائق الأسماء والصفات , فهو قد استراح من التفكر فيها ابتداءً لأنه قد آمن أن حقائقها مما لا يمكن لمخلوق كائناً من كان ولا جبريل نفسه عليه السلام أن يدركها أو يتصورها على حقيقتها ابدأ, ومجرد محاولة ذلك إنما هو انتحار للعقل وتدمير ذاتي , وهو ما حدث مع كل الفلاسفة وذوي الفهم , الذين تاهوا وضلوا وحاروا وجاروا وما رجعوا بشيء البتة إلا التسليم والإذعان والبكاء والهذيان !

وهذا الاختلاف والتفرق والتحزب الذي أصاب أهل الكتاب من اليهود والنصارى وأهل الإسلام كان من اهم واقوى أسبابه اختلافهم في فهم صفات الله تعالى وأفعاله الواردة في الكتب السماوية , ثم زادوا الطين بلة , والقوا على الجمر وقوداً فحرق الأخضر واليابس , عندما افتروا على الله تعالى بأن نسبوا لله تبارك وتعالى صفات وأفعال لم ترد في كتبه المنزلة !

نقول لو تعامل أهل الكتاب جميعهم مع الصفات والأفعال الواردة في كتبهم وفق هذا التصور , ما اختلفوا وما تقاتلوا وضلوا ضلالاً مبيناً , وكفروا كفراً عظيماً , لأن آيات الله تعالى ـ وفق هذا التصور ـ لا تخاطبهم بحقائق الأسماء والصفات كما هي في عالم الذات الإلهية المقدسة , وإنما تخاطبهم بآثارها المتفاعلة مع نواميس الزمان والمكان والحركة والسكون , فتبدوا للعقل البشري في معنى معقول يستطيع تفهمه على محمل التنزيه , وبالتالي لا ننسب لله تبارك وتعالى صفة وفعل حقيقي من ذاته المقدسة تحتاج إلى تحيز وحركة وزمان ومكان وانتقال وإيتان ومجيء ـ ونزول كما زعموا في الروايات المكذوبة ـ 

كيف وكل ذلك مخلوق لله تبارك وتعالى ؟ّ! 

وكيف يخضع الخالق جلا جلاله لناموس هو خالقه ومصرفه ؟!  

فلا يصح أن نعتقد ـ وفق هذا التصور ـ أن ينتقل الله تعالى [بذاته المقدسة ] من مكان لمكان , أو أن يأتي إلينا [ بذاته المقدسة ] أو أن ينزل كما زعموا [بذاته المقدسة ] لأن كل ذلك ( الحركة والمكان والزمان والتحيز , وكل ما يتصوره العقل من لوازم هذه الأفعال ) هو مخلوق لله تبارك وتعالى .

لذلك في عبارة مجملة , أن حقائق الأسماء والصفات المقدسة , والأفعال القدسية , لا يمسها العقل البشري ولا يتعامل معها البتة , ولا يخاطب القرآن الكريم عقل الإنسان بحقائقها في عالم القدوسية , وإنما يخاطبه بآثارها في عالم الزمان والمكان والحركة والتحيز لكي يستطيع التعامل معها ويفهم معناها على محمل التنزيه , بحيث يوقن أنها حتى في آثارها وتفاعلها مع نواميس الكون لا شبيه لها مطلقاً , لذلك يؤمن بمعناها من غير تشبيه , وإلا كيف يخاطب القرآن الكريم عقل الأنسان بحقائق الصفات والأفعال وهولا يمكنه البته تصورها ولا حتى على محمل التنزيه ؟! وبأي عبارة يكون ذلك ؟! 

ولذلك قلنا أن مجرد التصور أن العقل يمكنه تصور هذه الحقائق , لأصبح العقل إلهاً !! 

لذلك نحن نؤمن أن ما ورد في كتاب الله تعالى حصراً وقصراً من صفات وأفعال قدسية , إنما هي في هيئة آثارها في عالمنا المادي الخاضع لنواميس القدرة الإلهية , وليست هي كما هي في حقيقتها , فهذا ما لا يمكن وصفه وليست في نطاق أي مخلوق من خلق الله تعالى كائناً من كان , وإنما نؤمن بحقائقها كما نؤمن بحقيقة الذات المقدسة , إجمالاً وعلى الغيب , إيماناً تاماً ويقيناً جازماً

بلا ريب, وأي محاولة .... مجرد محاولة تصورها وتعقّلها يفسد الإيمان كله من جذوره , وفى نفس الوقت نثبت ( آثارها الواردة في الكتاب حصراً وقصراً ) إثباتاً من غير تشبيه وتجسيم.