نُولد و معنَا مقدِراتٌ معيّنة.. مواهبُ فطريّة لم نبذُل جهداً في الحصولِ عليْها. بعضٌ من الصّفات الّتي يمكنُ أن تَكون غيرَ متوفّرةٍ عند البعضِ الّذينَ يملكُون بدَورهم صفاتٍ أخرى..

نكتَسبُ بعدَ ولادتنَا مهاراتٍ و خبراتٍ من مُحيطنا. بعضُها ينمُو من صفاتٍ و مواهبَ كانَت موجودةً ولكنّها خافتةٌ أصلاً.. و بعضُها يستَثمر مَا هو موجُود أصلاً.. و بعضها الآخر يُضيف - بالتّدريب أو الصّقل - ما لم يكُن موجوداً أصلاً.

كلّ هذهِ الصّفات بمعزلٍ عن كونِها فطريّةً أو مُكتسبة.. كلُّها توضَع في قالبٍ معيّنٍ من القوالبِ المتوفّرة من حولنَا. بعبارةٍ أخرَى : نوضَع نحنُ، بما فينا من صفاتٍ في أحدِ القوالبِ الجاهزة من حولِنا.

كثيراً ما نوضَع داخلَ قوالبَ لم نختَرها حقّاً.. بل اختارَها المجتمَع من حولنا. بل ربّما جَعلنا نتصوّر أنّنا نختارُها.. زوّرَ رغبَتنا بالتّدريج. و جَعلنا نقتَنع أنّ قالب الطّبيب أو المهندِس أو رجلِ الأعمَال هو الأنسبُ لنا.. أو الأنسَب لما نملكُ من صِفات.

كم منْ متفوّقٍ وُئدت رغبَاته الحقيقيّة تحتَ قوالب المجتمع البرّاقة.. ربّما يكونُ نجَح فعلاً بما أوتِيَ من مواهِب.. لكنَّ روحَه الحقيقيّة كانَت لا تُريد بريقاً اجتماعيّاً عابرا.. بل تُريد نوراً يزيدهَا سطوعاً.

قوالبُ المُجتمَع الّتي تُجبرنا على التقولُب فيها هيَ فخّ متقنٌ أحياناً للتخلّص من أعظمِ و أنبَل ما فينَا.. بالضّبط لتدجينِ أعظَم و أنبَل ما فينَا.. يمكِن لبعضِ قدراتِك و موَاهبك أن تُساهم في تغييرِ المجتمع.. في جَعله أفضل. لكنّ ذلكَ لن يكُون بالضّرورة عملاً مناسبا للبريقِ الاجتماعيّ. لن يؤمّنَ بالضّرورة متطلّبات الرّفاهيّة.. بالمقابل فإنّ المجتمَع بكثيرٍ من مؤسّساتِه المستفِيدة من بَقائه كمَا هوَ قد يروّج لقوالبَ معيّنة، يدفن فيها الموهوبون مَواهبَهم مقابِل أن يحصُلوا على متاعٍ زائل و الكثيرِ من الاحتِرام الزّائف.

يمكِن لشخصٍ يملِك موهبةَ القيَادة أن يَقنع بقالبٍ ضيّق فيقودَ مؤسّسةً ربحيّة، بدلاً من أن يتّسع حجمُ طموحِه إلى قَالب يقُود فيها مُجتمعه و أمّته.

يمكِن لمن يملكُ ذكاءً وقّادا أن يقنَع بمهنَةٍ توفّر له متطلّباتٍ لم تَكن يوماً ضروريّة.. بدلاً من أن يستخدمَ ذكاءهُ هذا في توفيرِ متطلّبات حقيقيّة.

إنّها قوالبُ موجودة..

و نحنُ من طِين..

نتكيّفُ من خلالها.. نتشكّل كما يُريد القالَب.. و شيئاً فشيئاً.. يصيرُ ذلك القَالب كما لو أنّه خُلق لنا أو أنّنا خُلقنا له..

استرداد عمر من السّيرة إلى المسيرة - د. أحمد خيري العمري بتصرّف.